16-نوفمبر-2017

على عكس الصحراء، لا يزال البحر غير مترسخ في الهوية الجزائرية (الترا صوت)

حطّت بنا الطائرة اضطرارًا في مطار جزيرة إيبيزا الإسبانية. وهي لا تبتعد عن الجزائر العاصمة إلا بخمسٍ وعشرين دقيقةً جوًّا، مع ذلك فهي ليست داخلةً في المخيال الجزائري.

لماذا هذا التغييب للبعد المتوسطي في هويتنا الوطنية الجزائرية، ليس كما رسمه نيكولا ساركوزي في مشروعه الفاشل، وكأننا لا نملك 1500 كيلومترًا من البحر؟ فالبحر مغيّب في أفلامنا ومسلسلاتنا ورواياتنا وبرامجنا الترفيهية ورياضاتنا! في مقابل حضور الصّحراء بكمّية لافتة؟ هل يعود ذلك إلى أن البحر قُدّم لنا على أنه يعني الآخر، في حين قدّمت لنا الصّحراء على أنها تعني الأنا العربي والمسلم؟

لماذا هذا التغييب للبعد المتوسطي في الهوية الجزائرية وكأن البلد لا يملك 1500 كيلومترًا على البحر؟

هل لاحظتم كيف أن الجزائري، في الكورنيش، يُعطي ظهرَه للبحر ووجهَه للجنوب؟ ما معنى أن نترك سمكنا يموت بالشيخوخة، ونشتري الكيلوغرام الواحد منه بما يساوي نصف قنطار من السّميد؟

اقرأ/ي أيضًا: الهوية الجزائرية.. من الاحتلال إلى الإهمال

ما معنى أن أجد نفسي أنا الكاتب الجزائري أتغنّى بالنخلة، وأهمل الزّيتونة والليمونة والبرتقالة والصّفصافة واللوزة، وهي مغروسة في حديقتي؟ لماذا لم تعمل المنظومات السّياسية والثقافية منذ فجر الاستقلال على أن تغرس النخلة والزيتونة معًا في الأذهان والوجدان؟ فهما كلتاهما ملكنا؟ واكتفت بتغليب رمزية النخلة؟

كنت في معرض عربي للكتاب، فقال لي كاتب عربي صديق: "مالي أراك تحتكّ بالكتّاب الفرنسيس والبرتغال والإسبان والطلاينة واليونان؟"، لقد فهم ذلك على أنه استلاب فكري مني! قلت له: هل هناك مرآة عاكسة للوجدان مثل اللغة؟ أ ليست اللغة بيت الكينونة كما قال الأستاذ هايدغر؟ يا رجل إن في قاموسي الجزائري من كلماتهم، وفي قواميسهم من كلماتي ما يستدعي إنشاء مخبر بحث في التبادلات اللغوية المتوسطية. أصلًا اشتقّ الاسم الإسباني لهذه الجزيرة، التي تحكم نفسها ذاتيًا منذ القرن الثالث عشر من الكلمة العربية "يابسة".

كانت جبال وغابات وشواطئ إيبيزا ساحرةً. لكن عيوننا نحن الجزائريين توجهت إلى الجميلات، على قلّتهن لأنه لم يُسمح لنا بالتوغّل! وكنتُ سأثمّن شغف الجزائري بالجمال لو لم يكن ذلك ثمرةً للكبت والحرمان. هل رأيتم كيف حصر شبابنا ابتهاجهم بإلغاء روسيا للفيزا في أنهم سيتمكنون من التواصل أكثر مع الرّوسيات؟

وصلت طائرتنا إلى الجزائر العاصمة قادمةً من الخليج العربي، لكنّها لم تهبط! فبقي هبوطها غير مؤكد مثل معلومةٍ أوردها مخبول. وهو مقام خالق للشكوك والمخاوف والإشاعات وتبادل النظرات لا وجهات النظر.

أ ليس مقامًا شبيهًا بالمقام الجزائري اليوم؟ حتى قائد الطائرة اكتفى بالقول إن الوضع مسيطر عليه تمامًا. لكن لماذا لم تثمر هذه السّيطرة هبوط الطائرة أو إحساسَنا بالأمان على الأقل؟

ما أصعب مقامًا يصمت فيه القائد، وإن نطق فللقول إنكم ستنجون لا إنكم نجوتم! هناك مفاصلُ يصبح فيها التطمين والتخويف كلاهما مدعاةً للرّعب. ألا يخاف الجزائري اليوم حين تطمئنه الحكومة على الوضع، ويخاف حين تخوّفه المعارضة منه في الوقت نفسِه؟

ما أصعب مقامًا يصمت فيه القائد، وإن نطق فللقول إنكم ستنجون لا إنكم نجوتم! هناك مفاصلُ يصبح فيها التطمين والتخويف كلاهما مدعاةً للرّعب

نجح طاقم الطائرة في إنتاج الابتسام، لكنه فشل في إخفاء خوفه الدّفين، ممّا جعل الركّاب يتلقون ابتساماتِه بصفتها نوعًا من الكذب. مع ذلك لم يكفّوا عن سؤاله عن التفاصيل. تمامًا مثل المواطن الجزائري! لا يُصدّق الحكومة في شيء، لكنه ينتظر منها أن توضّح له كلّ شيء.

اقرأ/ي أيضًا: في هوّية المكان الجزائري ولغته

لم يكن أحد من الرّكاب الجزائريين يبالي بأحد، قبل أن تدخل الطائرة في أزمتها الطارئة. فقد كان شغفهم بالرّكاب الأجانب، لكن ما أن بدأت بوادر الأزمة تظهر حتى راحوا يتقرّبون من بعضهم، وينسون محدّثيهم الأجانب. لماذا لا يتقارب الجزائريون إلا في أوقات الأزمة؟

وكان البعض يشربون الخمر منتشين ويُطلقون نظراتِ تحدٍّ إلى الملتحين. لكن ما أن استشعروا الخوف حتى تحوّلت نظرات التحدّي إلى نظراتٍ للتوسّل وطلب الدّعاء. لماذا يتفوّق الإسلاميون على العلمانيين في سرعة التدخل وقت الأزمات الحرجة؟ في المقابل، لماذا يخسر الإسلاميون قطاعًا واسعًا من المتعاطفين معهم، ما أن تلوح علامات الفرج؟

كنا غارقين في الدّعاء، لكن ما أن قال قائد الطائرة إن الظروف لا تسمح بالهبوط في مطار الجزائر، وإنه سيحوّل الطائرة إلى مطار إيبيزا في إسبانيا، حتى فاضت الوجوه بشرًا ورحنا نصفّق! قال فتىً سطايفي أنعش الطائرة بالمرح: "والله يا جماعة.. لن ينقذنا إلا بعدُنا المتوسّطي".

تأمّلتُ الوضع، فوجدت الأغلبية ترغب في أن تبقى في إيبيزا! أيّهما الفردوس المفقود؟ إسبانيا أم الجزائر؟

 

اقرأ/ي أيضًا:

الجزائريون.. سكارى وما هم بسكارى

المثقف والسّلطة في الجزائر.. قناع لوجهين