08-مايو-2025
باتت معالجة الحروق في غزة مهمة شبه مستحيلة (AP)

باتت معالجة الحروق في غزة مهمة شبه مستحيلة (AP)

في مستشفى ناصر جنوب قطاع غزة، لا يقتصر الألم على أجساد الأطفال المحترقة، بل يمتدّ إلى عجز الأطباء، وصمت العالم، ودواءٍ مفقود خلف المعابر المغلقة. منذ أن شددت إسرائيل حصارها على غزة قبل أكثر من ثلاثة أشهر، باتت معالجة الحروق مهمة شبه مستحيلة. الأطفال الذين نجوا من القصف، يُتركون اليوم لمصير لا يقلّ فتكًا: الالتهابات، العدوى، والجوع.

غرف العناية المركّزة تحوّلت إلى مساحات طوارئ دائمة، تعمل بحدودها الدنيا. يضطر الأطباء إلى إعادة استخدام الضمادات، وتقسيم جرعات المسكنات على عدد يفوق قدرتها على التسكين، فيما تُترك الحالات الأكثر تعقيدًا دون تدخل جراحي لغياب المعدات والأطباء المختصين. ليس في غزة اليوم ما يكفي لتسكين ألم حرقٍ صغير، فكيف بحروق تغطي أجسادًا هشّة بأكملها؟

أمام هذا المشهد، تبدو كل ضربة جوية إسرائيلية كأنها لا تكتفي بإسقاط البيوت، بل تُجهز على ما تبقى من القدرة على الحياة. هنا، لا يُقاس الدمار فقط بعدد الضحايا، بل بعدد من لا يجدون طريقًا إلى الشفاء.

غرف العناية المركّزة تحوّلت إلى مساحات طوارئ دائمة، تعمل بحدودها الدنيا. يضطر الأطباء إلى إعادة استخدام الضمادات، وتقسيم جرعات المسكنات على عدد يفوق قدرتها على التسكين

حمزة.. سبع سنوات من الألم والصمت

في مستشفى ناصر بمدينة خانيونس، يرقد الطفل حمزة أبو شباب (7 أعوام) على سريره الصغير، يتلوّى من الألم كلما حاولت والدته تغيير ضماداته أو دهن جسده المحترق بالمرهم القليل المتاح. أصيب حمزة بحروق من الدرجة الثالثة في رأسه وعنقه وكتفيه بعدما انسكب عليه طبق ساخن من الأرز والعدس، عندما ارتعب من قصف جوي إسرائيلي قرب خيمته جنوب غزة الشهر الماضي.

"لو لم يكن هناك حصار، أو كنا في بلد آخر، لكان حمزة قد تعافى الآن"، تقول والدته إيمان لوكالة "أسوشيتد برس"، مؤكدة أن سوء التغذية ونقص المضادات الحيوية فاقم من تدهور حالته.

انفجار أعداد المصابين ونقص في كل شيء

منظمة "أطباء بلا حدود" تقول إن عدد حالات الحروق التي تستقبلها مستشفى ناصر ارتفع إلى أربعة أضعاف منذ منتصف آذار/مارس، إذ بات يستقبل 20 مصابًا يوميًا بدلًا من 5 فقط. وتغطي الحروق في بعض الحالات ما يصل إلى 40% من أجساد المصابين، وهو ما أدى إلى تسجيل وفيات، بعضها نتيجة توقف الجهاز التنفسي، والبعض الآخر بسبب العدوى الحادة.

جولي فوكون، منسقة الطواقم الطبية في غزة، توضح لـ "أسوشيتد برس"، أن المستشفى يعاني من نقص حاد في المسكنات والمضادات الحيوية ومواد التعقيم والضمادات، ما يجعل علاج الحروق مهمة شبه مستحيلة.

ظروف المعيشة تحفّز الحوادث

بعيدًا عن القصف، تؤدي ظروف الحياة غير الآمنة – خاصة الطهو بالنار في خيام مزدحمة – إلى وقوع حوادث متكررة تؤدي إلى إصابات حادة بالحروق. تقول أم حمزة إن نجلها خضع لتسع عمليات جراحية، من بينها أربع عمليات في الوجه، لكنه يعاني اليوم من آلام مزمنة لأنه لا يستطيع ابتلاع الحبوب الكبيرة ولا توجد أدوية سائلة للأطفال.

ليان... فقدت أمها وأُحرقت وهي تلعب

في غرفة أخرى بالمستشفى، تجلس الطفلة ليان سهلول (4 أعوام) بين دماها الصغيرة، وهي تعاني من حروق من الدرجة الثانية في وجهها وقدميها وبطنها، بعد قصف إسرائيلي دمر منزلها في خانيونس وقتل والدتها الحامل وشقيقيها.

تقول خالتها رُجى: "ليان تعيش في حالة رعب دائم، لا تتحرك ولا تتكلم. كما أنها تعاني من سوء تغذية حاد، ما يجعل عملية تعافيها بطيئة ومؤلمة".

مساعدات ممنوعة واتهامات بالتجويع

أعلنت وزارة الصحة الإسرائيلية أن "الطعام في غزة كافٍ"، بحسب ما نُقل خلال اجتماع أمني. في المقابل، تحذر المنظمات الدولية من أن المجاعة باتت وشيكة، خاصة في ظل تدهور المنظومة الصحية ومنع دخول الأدوية والمعدات الطبية.

وتعتبر منظمات حقوقية أن الحصار الإسرائيلي يرقى إلى "سياسة تجويع ممنهجة"، قد تشكّل جريمة حرب. ويؤكد عاملون في المجال الإنساني أن السلطات الإسرائيلية رفضت دخول فرق طبية أجنبية مؤخرًا، رغم الحاجة الماسة لجراحي التجميل لمتابعة حالات الحروق المعقدة.

ميرا... وجعٌ مستمر في خيمة بلا دواء

في نهاية نيسان/أبريل، أُصيبت الطفلة ميرا الخزندار (10 أعوام) بحروق خطيرة في ذراعيها وصدرها نتيجة قصف قرب خيمتها. تقول والدتها حنين: "أبحث عن المراهم في كل صيدلية، لكن لا شيء متوفر. ميرا تتعذب ليلًا، لا تنام من الألم، حتى الأدوية لم تعد تجدي نفعًا".

ورغم أنها عادت إلى خيمتها، إلا أن الرمال والبعوض يعقّدان حالتها، ويجعل الذهاب للمستشفى مغامرة قد تفتح الطريق أمام العدوى.

رُعب يومي وجراح لا تلتئم

يترافق هذا المشهد مع انهيار شبه كامل في المنظومة الصحية في القطاع المحاصر. لا دواء ولا غذاء ولا رعاية طبية كافية، في وقت لا تزال فيه إسرائيل تصعّد من قصفها، وترفض حتى الآن السماح بدخول مساعدات إنسانية أو طواقم طبية دولية.

وسط هذا الجحيم، تُترك أجساد الأطفال لتحترق ببطء،  ليس فقط بالنار، بل بالجوع، والإهمال، والصمت الدولي.