18-يناير-2016

عز الدين عبود/ سوريا

أن تكون خطوتك معلقة في الفراغ، فلا تستطيع حمل جسدك إلى الأمام، ولا تستطيع استرجاعه إلى الوراء. ذلك هو الاغتراب؛ اختلال الشعور بالواقع، حالة خواء روحي، شعور بالفراغ بين الضلوع، إحساس يجعلك منفلتًا في فضاء غادر لا يوجد ما تتمسك به لأنه لا وزن لوجودك، ولا أرض صلبة تلتقط قدميك. أنت في الأرض الغريبة لا تستطيع تحقيق توازنك، وهذا ما سيجعل من قفزتك بين عالمك هناك وعالمك هنا خطوة معلقة في الفراغ، فليس في مقدورك استرجاع قدمك الأولى إلى الوراء، وليس بمقدورك نقل قدمك الثانية إلى الأمام؛ أنت عالق بين ضفتين ومهدد بالسقوط في العدم. 

في الأرض الغريبة، لا تستطيع تحقيق توازنك، وهذا ما سيجعل من قفزتك بين عالمك هناك وعالمك هنا خطوة معلقة في الفراغ

الاغتراب المُلازِم للسوريّ هو مزيج غريب من التناقضات: منها إحساسه بكونه "ضحية"، وهذا الشعور الذي يحميه ظاهريًا من الإحساس بالذنب، ولكنه في الحقيقة نكوص حاد، انقسام على الذات في حالة تناقض بين تبرير فعل الاغتراب، وبين عدم الغفران للذات بسبب خلاص فردي باطنه انهزام غير مشروع؛ وهذا ما يخلق اغترابًا عموديًا عميقًا على صعيد الذات في علاقتها مع نفسها، فهي حائرة -مثل أرواح الموتى التي تركتها هناك هائمة غير قادرة على عبور برزخ الحياة إلى سلام الموت- الذات المفتتة بين الحلم المثالي الذي رأى ولم يستطع الفعل، وبين الواقع الذي آل إليه الحلم والهزائم المتجلية بكامل فجاجتها على الأرض، واغترابًا أفقيًا واسعًا على صعيد علاقة هذه الذات مع الآخرين في المحيط الاجتماعي؛ هؤلاء الآخرون الذين لا تتشارك معهم الذاكرة ولا روائح الطفولة ولا حتى مسلسلات الكارتون، الآخرون الذين يشعرون بأننا من كوكب آخر، يتعاطفون معنا، ولكن حتمًا يقلقهم وجودنا المباغِت.

لن تشعر في لجة اغترابك هنا، عند الحديث مع الغرباء بأنك زائد عن الحاجة، لأن الغرباء في هذه المدن أكثر من عدد سكانها الأصليين، لكن لا بد أن يتفاقم اغترابك عندما يتعاطف معك غريب مثلك، ويقول لك نحن نشعر بهول مأساتك أيها السوري المَغدور، شعور غريب يجتاحك وكأن المصيبة تحتاج إلى كلمات توصِّفها كي تشعر بهولها. 

وكأن الكلمات تجسّم هيولى المعنى وتمنحها هيئة وثقلًا ورائحة. كأن المعنى يبقى هائمًا غائمًا دون كيان حتى تحتويه الكلمات، لا تمتلك الأرقام القدرة ذاتها على التجسيم وإعادة التشكيل، وحدها الكلمات المُصاغة بإتقان، هي التي تحول المجرَّد إلى محسوس، تنحت من العدم هيكلا ثلاثي الأبعاد تستطيع لمسه وشمّه، وضرب رأسك به.

عادة يرتبط مفهوم الاغتراب بشرط اجتماعي واقتصادي ضمن ظرف زمني محدد، فهو نتيجة للعزلة الاجتماعية والعجز عن الفعل بشكل عام، وعن العمل بشكل خاص، في المجتمع الجديد، شعور العجز وكأنك تحت تأثير مخدر عام ولكنك تشعر بكل ما حولك، قلق وجودي مُربِك، وكأنك ضيّعت يديك وقدميك ولسانك، مزيج من عدم الفهم وعدم القدرة على التأثير هنا أو هناك، وكأنك شعاع شمس عابر، يحلم بأن يكون صاعقة تشد العالم من أذنه كي يرى ماذا فعل بمصيرك، ولكنك تقف على تخوم الحلم؛ فلا تدري هل أنت صاعقة تحلم بأنها شعاع أم شعاع يحلم أنه صاعقة؟

من اغتراب اللغة تنتج العزلة الاجتماعية والعجز عن الاندماج، وفي النتيجة الغرق في الشعور باللاجدوى

ويكمن الاغتراب بأجلى صوره في اللغة، الضياع الحقيقي يتجلى في غربة اللغة التي لن يدرك أحد قيمتها في تحقيق توازنه الداخلي إلا في المجتمع المتكلم بلغة أخرى يجهلها تمامًا، ومن اغتراب اللغة ستنتج العزلة الاجتماعية والعجز عن الاندماج، وفي النتيجة الغرق في الشعور باللاجدوى، ميزة الاغتراب وعلامته الفارقة. 

في غمرة يأسك أو عجزك، سترغب حتمًا في أن تشرح على الأقل للصديق/الغريب ماذا حدث في بلدك، وهنا سيتعاظم انفعالك مع شتات مما تختزنه من لغات الأرض وإشارات اليدين البدائية كي تشرح شيئا بتعقيد الأزمة السورية. هو لن يفهم، وأنت ستستمر بلومه لأنه لم يفهم.

كيف تتحول اللغة من مادة تواصل إلى مادة قطيعة، وحتى لو استطعت الوصول إلى لغة وسيطة كاللغة الإنجليزية مثلًا، كيف ستستطيع بلغة غريبة تحميل كلماتك القهر والاحتجاج والانفعال الذي يناسب محمولك المتعاظم منها جميعًا؟

عندما لا تستطيع أن تشرح كل هذا، سيكون رد الفعل البديهي إما في الانكفاء على الذات وتجنب المجتمع الغريب وحصر العلاقة مع المتكلمين بلغتك الأم، أو الهروب إلى الأمام بمحاولة اقتحام هذه اللغة وفك مجاهيلها، ولكن رغم هذه المحاولات، ستستمر خيانة اللغة المكتَسَبَة في مقابل إخلاص اللغة الأم التي ستستمر بدورها بتأكيد وجودها؛ لأن اللغة الجديدة تحتاج إلى تراكم وأرشفة وعمليات حفظ متتالية؛ كي تنتقل من الذاكرة المؤقتة وتترسخ في الذاكرة الدائمة، وتتمكن بالتالي من تحييد اللغة الأم إلى حين طلبها.

الاغتراب الناتج عن عدم فهم اللغة يجعلك تعيش الواقع على أنه واقع افتراضي غير حقيقي

الاغتراب الناتج عن عدم فهم اللغة يجعلك تعيش الواقع على أنه واقع افتراضي غير حقيقي، وكأنك منفصل عن ذاتك تراقب صوره الملونة وتقيَم جمالها أو قباحتها دون أن تشعر بأنك جزء منها. هذا الانفصام عن الواقع ينتج عنه هروب مَرَضي إلى الماضي، وكأن الحواس الخمس تمر عبر معبر "فلتر" هو الذاكرة الطازجة التي لم تبهت بعد، ولذلك تقوم بالمقارنات التي لن تنتهي بين هنا وهناك في مفاضلات تميل كفتها لصالح الـهناك في معظم الحالات في تعويض لا شعوري عن الفقد والحنين. وتواصل روحك الانقسام والتناثر، وتردد عبارة محمود درويش: "بعضي هنا وبعضي هناك.. وبعضي يحن إلى بعضي".

ومن ثمَّ تبدأ محاولات التحايل على شعور الاغتراب: التمسك بفكرة العودة القريبة، اختلاق الأحاديث عن الوطن، تجميل الذكريات، الغرق في وسائل التواصل الاجتماعي مع الأصدقاء للحديث عن اليوميات المؤلمة هناك، بطرائق تكون أحيانا مازوخية بشكل لا واع لتخفيف الشعور بالذنب، وإثبات الحضور عبر الكلام في الواقع الافتراضي، من أجل مراوغة الغياب عن الواقع الحقيقي.

وفي النهاية، نحن -المعلقين بين فضائين والمهددين بالذوبان والعزل- سنعلق سؤالنا معنا حتى يجد الجواب لنا مستقرًا: كيف نتحايل على اغترابنا في حضرة هذا الغياب/ العجز/ العزلة؟

اقرأ/ي أيضًا:

الضمير التسلطي والسلطة

الحلم العربي.. أجيال وراء أجيال في الأكذوبة