18-أغسطس-2022
لوحة لـ سندس عبد الهادي/ العراق

لوحة لـ سندس عبد الهادي/ العراق

لا تُقاس الطرق بغير الأغاني. يقول شخص لنفسه: "هذه طريق تحتاج أغنيةً تعاد ثلاث مرات". ويقول هو نفسه لكن في طريق أخرى: "هذه تحتاج ألبومًا كاملًا". ثم تبدأ الرحلة. وسواءً مضى إلى دكان البقالة المجاور لداره، أو إلى أقاصي الأرض، ستتوالى مراحل الرحلة بتوالي المواويل والأغاني والتفريدات التي في بال الشخص الماشي بلا وجهة، أو المسافر إلى هدف.

في النهاية نخسر كل شيء: العمر، الحب، الأمكنة، الأهل، الأصحاب، البلاد.. مع ذلك يكفينا أن نربح أغنية

في النهاية، عند الوصول، نسأل: أوصلنا بسبب قوة الحصان أو الحمار، أم بسبب جودة السيارات أو الطائرات؟ وننسى أنه لا وصول لولا الأغاني.

الأغاني عن الحب هي الحب. والأغاني عن الأصدقاء هي الصداقة. لأنها، أعني الأغاني، هي الحياة حين لا نستطيع إليها سبيلًا، فنذهب نحو الكلمات والأصوات لنجد عزاء في أنّنا عشنا ولم نعش، ونجد أن الأغاني هي كل ما رغبنا في أن نعيشه.

لو شئنا الإنصاف لرأى كل منا إلى أغنياته على أنها كل حياته، فليس هناك طفولة وشباب وكهولة، بل كل ما يحدث أننا نبدلها بأخرى، تتوقف في آلة التسجيل أو البال فندير أخرى، ولا ندري أنها هي التي تبدلنا.

في النهاية نخسر كل شيء: العمر، الحب، الأمكنة، الأهل، الأصحاب، البلاد.. مع ذلك يكفينا أن نربح أغنية.

*

وراء كلِّ أغنيةٍ أو قطعة موسيقية صديقٌ.

ما نعرفه من عالم الأصوات، بعيدًا عما يُفرض علينا لقوة انتشاره، نعرفه بسبب الأصدقاء، ونحبّه لأجلهم، ولأجل لحظات سحرية ننسى أين جرت، وماذا دار فيها، لكننا نتذكر الصوت القادم من خلفيتها، وكأنه هو المشهد والحدث بعد زوال كل شيء.

ثمة من يربطون الحب بالموسيقى أكثر من الصداقة. لهم الحق في ذلك، وعلينا أن نتفهم حالتهم. المشكلة أنهم ينسون أن الموسيقى والغناء في الحب تطبيب أو مغازلة، أو بحث عن تفسير للمشاعر، لكنهما في الصداقة شراكة، ولهذا سرّ الحياة الأكبر صوتٌ زرعه شخصٌ ببراعةٍ في الذاكرة.

بالنسبة لي، بعضُ الأصدقاء كتب، لكنهم جميعًا موسيقى وأغانٍ.

*

مثلما ظلّت الأغاني تأخذنا من بيوتنا القديمة إلى العالم، تستطيع الآن أن تُعيدنا إليها. 

أقول هذا وأنا لست متأكدًا: أهي من تأخذ البيوت إلى العالم؟ أم من تجلبه إليها؟ لكن الأكيد أنها سواء أخذتنا إلى بيوتنا أو جبلتها إلينا فإنها تفعل ما تفعله الفيزياء، تتحرك. 

حسنًا، يبدو أن البيوت خُلقتْ ثابتةً ولأجل تحريكها اخترعنا الغناء!

*

حالما نعرف أنّ وراء الأغنية قصةً نُقدّرها أكثر من غيرها، لأننا بمجرد معرفة القصة التي خرجت منها الأغنية، أو الشخصية التي خرجت منه أو لأجله، نشعر أننا، نحن لا سوانا، من أطلقوها حتى لو عدمنا أدنى أبجديات الغناء.

حالما نعرف أنّ وراء الأغنية قصةً نُقدّرها أكثر من غيرها، لأننا بمجرد معرفة القصة التي خرجت منها الأغنية، أو الشخصية التي خرجت منه أو لأجله، نشعر أننا، نحن لا سوانا، من أطلقوها حتى لو عدمنا أدنى أبجديات الغناء

ما نفعله مع الأغاني التي تخلو من قصص مثيرة هو أننا نعكس حياتنا عليها وحسب. حين تتحدث الأغنية عن عشّاق نبحث على الفور على الجانب الذي يتصل بعشقٍ عرفناه أو لا نزال. وحين تتحدث عن طرقات قديمة نحوّر ما استطعنا من تلك الجغرافيا لتلائم الأمكنة التي نحبّها. من منا لم يفعل ما يشبه ذلك مع أغنية فيروز "في قهوة ع المفرق" مثلًا؟

الفرق بسيط بين الأغاني ذات القصص والتي بلا قصص. في الأولى نصبح الآخرين، وفي الثانية نصبح أنفسنا. قصص الآخرين توسّع من مساحات فهمنا للذات فتجعلنا نغدو ما لم نكنه. نحن لسنا نحن فقط. هذه محدودية. إننا أحياء بمقدار ما نخلق صلات مع كل ما نستطيع. أما خلوها من القصص فيرغمنا على منح حياتنا العادية لمسات أسطورية.

في الأولى نهجر شخصياتنا وأحلامنا وعالمنا ونغدو متصوفةً في وجدٍ أبديّ، أو ثوّارًا يحلمون بعالم جديد. أما في الثانية فنحوّر أنفسنا وعالمنا وذكرياتنا لنكون جديرين بالحياة.