19-يناير-2016

نواجه كيانات هلاميةً يصعب الإمساك بأطرافها(صافين حامد/أ.ف.ب)

في تصريح لافت، قال رئيس الوزراء التركي أحمد داوود أوغلو عقب التفجير الانتحاري في حي السلطان أحمد بإسطنبول إن "داعش" بات تنظيمًا يمكن استخدامه بسهولة أو كوسيط للتمويه على بعض العمليات الأخرى.

في ظل عدم وجود جهة رسمية واضحة المعالم تتبنى أحداث العنف فما الذي يمنع من حيث المبدأ أن تتدخل أطراف كثيرة في صناعتها وتوجيهها

مقولة أوغلو لها نصيب من الدقة، ففي المنظمات التي تنشط في الظلام وتتخذ من الغموض والتواري عن الأضواء نهجًا، يصبح من الصعب تحديد ملامح المشهد والتفريق بين الصدق والكذب، بين الحقيقي والتمثيلي، في هذه الحالة لا نواجه عناوين محددةً نستطيع تحميلها المسؤولية أو توقع خطوتها القادمة وفق مبدأ الرشد السياسي، بل نواجه كيانات هلاميةً يصعب الإمساك بأطرافها ولا يوجد ما يقيد نشاطاتها، وهذا هو الوسط الذهبي لاختراق أجهزة المخابرات وأصحاب الأجندة المشبوهة لهذه الجماعات والتستر بأسمائها للقيام بأفعال غير قانونية دون تحمل عبء المسؤولية عن هذه الأفعال. إن المستفيد الأول من حالة الغموض هم أصحاب المشاريع غير الأخلاقية الذين يخجلون من الجهر بحقيقة أهدافهم وتوجهاتهم على الملأ.

نحن اليوم في عالم مجنون يضرب فيه العنف عشوائيًا ويموت الناس مجانًا دون قدرة على فهم الحكمة مما يحدث أو على إيجاد ناظم يربط بين متفرقات الأحداث، وفي ظل عدم وجود جهة رسمية واضحة المعالم تتبنى هذه الأحداث فما الذي يمنع من حيث المبدأ أن تتدخل أطراف كثيرة في صناعتها وتوجيهها بما يخدم أجندتها ويصفي حساباتها مع خصومها ويخلط الأوراق، مما يحرمنا من وضوح الرؤية واتزان المسار.

بالطبع هناك أفكار متطرفة تبرر العنف العشوائي الذي يشهده العالم، لكننا لسنا على قدر من الطمأنينة واليقين بحيث نتبنى فرضية أن كل التفجيرات التي تضرب شرقًا وغربًا هي من فعل الجماعات البدائية الساذجة، ما يفعله وجود هذه الجماعات المتطرفة هو أنه يمنح أي لاعب مفترض القدرة على التمويه، فمثلاً لن تستطيع أي دولة اتهام غاندي بممارسة العنف لكنها تستطيع بسهولة اتهام بن لادن بذلك حتى وإن كان اتهامًا ملفقًا أحيانًا لأن من يحوم حول الحمى يوشك أن يقع فيها. إن وجود هذا المناخ من الأفكار المتطرفة ومن التبريرات الفلسفية للعنف هو فرصة لتصفية حسابات كثيرة بين الأطراف المختلفة، يعجزون عن تصفيتها بالوسائل القانونية وأدوات المواجهة المشروعة.

المواجهة في العلن أكثر أخلاقيةً من مواجهات الخفاء، إذ قلما يمتلك إنسان قدرًا من البجاحة بحيث يخرج على الملأ ويبرر القتل وانتهاكات العدالة بطريقة فجة، إن المتحدثين إلى الجمهور يميلون عادةً إلى إضفاء شرعية أخلاقية على أفعالهم، وحتى لو اتفقنا على أن الكثير من كلام السياسيين والإعلاميين هو محض نفاق فإن تبنيهم كلامًا أخلاقيًا منمقًا في العلاقات العامة ووسائل الإعلام يساهم وإن بقدر محدود في تقييدهم بالتزامات أخلاقية تحد من انطلاق جنونهم.

في المقابل فإن لا شيء يقيد مواجهات الخفاء التي تظهر أسوأ ما في الإنسان وتدفعه لارتكاب كل الموبقات معتمدًا في ذلك على أنه قد أمن المحاسبة وعلى أن صورته الدبلوماسية الأنيقة أمام العالم لن تتأثر، لذلك تميل الدول في علاقاتها الخارجية إلى الكيل بمكيالين: مكيال الحديث في المبادئ والعدالة، ومكيال العمل الخفي بوسائل استخبارية لتحقيق أهدافها بعيدًا عن التبعات الأخلاقية والقانونية.

إن المواجهة في الظلام هي مواجهة خاسرة لأصحاب المبادئ الأخلاقية الذين يسعون إلى إخراج الناس من الظلمات إلى النور، لا من ظلمة إلى ظلمة أخرى

هناك وسيلتان لمواجهة الظلم والفساد الذي يعاني منه العالم: إما الصدع بمبادئنا الأخلاقية علنًا والحرص على إبقاء وسائل المواجهة نظيفةً معقمةً غير قابلة للاختراق والتشويه وبذلك نستثير كوامن الخير في الفطرة الإنسانية ونشكل قوةً ضاغطةً على الأنظمة الرسمية لتعديل سياساتها، وإما أن نلجأ إلى أساليب الخلايا السرية والعمل تحت الأرض، وفي هذه الحالة نكون قد لجأنا إلى المربع الذي يهواه أنصار الظلام، وسينتصر علينا فيه من يمتلك الخبرات الاستخبارية ويمسك بمقاليد القوة والاقتصاد، وفي جميع الأحوال فإن المواجهة في الظلام هي مواجهة خاسرة لأصحاب المبادئ الأخلاقية الذين يسعون إلى إخراج الناس من الظلمات إلى النور، لا إلى إخراجهم من ظلمة إلى ظلمة أخرى.

لقد جاء الأنبياء برسالة إخراج الناس من الظلمات إلى النور، والمهمة الأخلاقية التي تقع على عاتق كل محبي الخير اليوم أن يخرجوا الناس من ظلمات ألاعيب المخابرات والأجندة المشبوهة إلى نور الحقيقة وكرامة الإنسان والعدالة البينة التي لا تشوبها شائبة.

كلما دفعنا العالم إلى الشفافية والمواجهة المفتوحة تحت ضوء الشمس كلما كان ذلك أنفع لقضايا الحق والعدالة، وكلما زادت دائرة الغموض والعمل السري والتنظيمات التي تزهد في الامتداد الشعبي والوضوح المبدئي وتعتمد على الخلايا السرية كلما غرقنا في الظلمات أكثر وأعطينا الفرصة لقوى الظلم والإفساد في الأرض لخلط الأوراق وتمرير سياساتها بعيدًا عن الرقابة والمساءلة.

اقرأ/ي أيضًا:

ليس داعش وحده داعش

هل سيحارب العالم داعش؟