19-يونيو-2016

غرافيتي لـ عباس محمود العقاد، قبل الانتهاء منه

لم يكن الراحل أنيس منصور كاتبي المفضل، لقد تجاوزته من زمن، إلا أن هذا الكتاب وبحقّ، يعد من أفضل ما كتب، أعطاني إياه عم عاطف، فنيّ الأشعة، هذا ما كان مكتوبًا بخط اليد على البلاط الأبيض الذي لم أره أبدًا من دونه، كنت أقرأ من الكتاب بنهم، كان مقسمًا إلى فصول متوسطة العدد، وكنت أحب طريقة الحكي الخاصة بأنيس منصور، كان ذلك قبل شهر رمضان مباشرة من العام الفائت، كنت أقرأ في غرفة كانت حمامًا للسيدات، ثم رأت إدارة المستشفى التي أعمل بها أن تحولها إلى "مكتب متابعة المرضى"، وضعوني فيها على الرغم من أن قرار التحويل لم يتضمن سوى إزالة المقاعد الصحية و"تبليط" أماكنها. 

"صالون العقاد" كتاب أنيس منصور عن تيه جيل بأكمله، وسط بحور العقاد وشواطئ طه حسين

جلست في هذه الغرفة التي يحوطها البلاط الأبيض من كل الجهات، اثنتي عشرة ساعة يوميًا، استمعت فيها إلى حكايات أنيس منصور عن تيه جيل بأكمله، وسط بحور العقاد وشواطئ طه حسين بحسب موقفك من كلاهما. 

اقرأ/ي أيضًا: نيرودا وماركيز.. قصة دردشة معلنة

كنت أسقط كل ما أقرأه في هذه الغرفة على ما أعيشه بنفسي مرة، وما أحس به حيال نفسي مرة أخرى، كانت هذه فرصة لصقل كل المرايا وتأمل انعكاسي عليها، قرأت في هذه الغرفة ما كان كافيًا لأن يصنع فاصلًا أو مساحة ما بين واقع الغرفة المدلهمة وبين ما كنت أطمح له من سكينة، كانت الغرفة مليئة بالورق والبلاط من كل الجهات، وكنت في ذلك الوقت أستمتع بكتابة يومياتي على أي شيء، البلاطات البيضاء التي كانت سابقًا حوائط ملساء تجري على سطحها الناعم ذرات المياه كأنها دموع، حولتها إلى "طاقات" وصل بين حيرتين حرصت على أن أجعلها متصلة على الدوام، الصفحة الأولى من كتاب "مشكلة الحب" للدكتور فؤاد زكريا بالقلم الرصاص على بلاطتين متتاليتين على يمين المكتب "الإيديال" الحديد، أوجاع أمل دنقل وزفراته موزعة على هذا الجدار المقابل أسفل التكيف: عيناك يا حبيبتي لحظتا شروق... معلق أنا على مشانق الصباح... والرصاصة التي دفع فيها ثمن الكسرة والدواء مرسومة بقلمي الجاف على غرف دفتر المتابعة.

عم عاطف فني الأشعة درس الفلسفة قبل أربعين عامًا، قال لي وهو يقلب صفحات كراسه الذي يتأبطه دومًا: "لا أراك في الكافيتريا، لماذا تأكل هنا؟ هل تهرب من الناس؟ هذه الطريقة للحياة في هذه الغرفة، هل هي محاكاة للسجن؟".

ساعدته في ترجمة بعض المصطلحات باللغة الألمانية، قال لي سأهديك شيئًا غدًا، وفي الغد قبل أن يدور قفل الباب في يدي، كان عم عاطف ذو الستة والستين عامًا مادًّا إليّ بالكتاب: "هذا الكتاب ليس فيه جديد بالمناسبة، لكنه يشبهك، قلت له يشبهني أنا كيف؟ قال: لا أعرف لكن أنت وهذا القبو الذي تعيش بداخله تذكرانني بهذا الكتاب.. سامحني لم أعد أتذكر منه شيئًا لكن أعتقد ذلك. 

الحياة خارج الغرفة قلقة، عجولة، وصاخبة. العديد من أجهزة الإنذار وآلات التنبيه والأبواق وجميعها تعمل في وقت واحد، أيهم ينبغي أن يشدني إليه أكثر؟ وما الذي عليّ أن أخرسه إلى الأبد؟ دائمًا هناك الطريقتان والصوتان والاتجاهان أو الرأيان.. وأنا لم أصلح للاختبار بعد، حين قرأت "ألقاه في اليم مكتوفًا وقال له إياك إياك أن تبتل بالماء!!"، قلت في صمتي ما هذه الحيرة، ما هذا الظلم؟ كتبتها بقلم الرصاص على بلاطة صفراء خلف الرف الذي خصصته لملفات الموتى، ستكون بجواري وأنا أعد الشاي صباحًا وفي كل وقت، كتبتها وأنا أعيد قراءة الأزل والالتباس، كتاب "الطواسين" لأبي المغيث الحلاج وكان المقصود بها إبليس، وعلى بلاطة مجاورة في نفس المكان نقلت منه أيضا "قال الحق سبحانه: الاختبار لي، لا لك، قال: الاختيارات كلها واختياري لك"، إذا كان السائق ينوب عنا جميعًا في اختيار الطريق الذي يسلكه ففيم الاختيار.

اقرأ/ي أيضًا: تاريخ كتالونيا في 300 صفحة

لم يعد العم عاطف يذكر من الكتاب شيئًا، لكنه قال إن به ما يشبهني والغرفة. على غلاف الكتاب كتبت دار النشر أن هذا الكتاب "صالون العقاد" هذا البحر العميق بقلم أنيس منصور، لكن بإمكانك قراءته على أنه قراءة لأنيس منصور نفسه في ضوء العقاد، أو لعلك لا تكن مخطئًا إن اعتبرته قراءة للجيل أو للحقبة بأكملها، كنت أقول لنفسي، أليس هذا الكتاب بما فيه من حكايات عن الدين والعقيدة، الاقتصاد والسياسة، الله والإنسان الحب والضياع رسالة من جيشنا المهزوم في حروب "اللوثيان" عن تيه حقبة بأكملها؟ أليس العقاد نفسه من قال "ومين قلك يا سيدنا إني توصلت إلى شيء؟".

هل كان آدم نفسه وإبليس أكثر حظًا من قابيل وهابيل؟ من يوحنا وسالومي؟

كنت محبوسًا في نفسي قبل أن أكون حبيس هذه الغرفة، والأوراق المتناثرة من حولي في كل مكان، شديدة الشبه بأيامي التي تحلحلت وانقطعت صلتها ببعضها بعضًا، جربت الحب ووجدته يحتاج إلى الاختيار، ككل شيء من حولي، ككل شيء منذ خلق الله آدم وإبليس وحواء، وحدها الحياة جاءت وستذهب قسرًا دون اختيار، وبين سطور الكتاب كانت الحياة تهدر والطرق تتشعب والأشياء تتداخل، نقلت منه فوق سطح ما (في هذه الدنيا كل ملامح الجيل، وعذاب العصر وحيوية التاريخ، وروعة الفلسفة وحرارة الدين)... ثم هذا الضياع الذي عاشه أنيس منصور هو وجيله والذي أعيشه الآن بدورين، كان أنيس منصور أكثر حظًا مني، كان الجيل بأكمله أكثر حظَا، هذا ما كنت أعتقده يومًا ما، لكن هل كان آدم نفسه وإبليس أكثر حظًا من قابيل وهابيل؟ من يوحنا وسالومي؟

في نهاية الشهر الكريم افتقدت عم عاطف فني الأشعة ذا الستة والستين عامًا، عدت من إجازة العيد، وجدته فارق العالم، دلفت إلى غرفتي، لم أستوعب الخبر، فوق لوحة المفاتيح كانت هناك ورقة تحمل توقيعه "صباح الخير يا ولد.. كل سنة وأنت طيب، مشيت بدري ليه كان نفسي أودعك، الكتاب ليك، أنت مش شبهه.. الكتاب أحلى".

اقرأ/ي أيضًا:

تاريخ "الحنفية".. صراع اللغة والفقهاء

لم كان بورخيس يكره كرة القدم؟