23-فبراير-2022

صورة رقمية (Getty)

ما زال الكثير منا يذكر الهرج الذي ساد قبل بداية الألفية الجديدة والذي استعرت ناره في الغرب معقل التكنولوجيا وانتقلت إلينا شرارة منه حين ذهب بعض المبالغين بالقول بنهاية العالم مع حلول ليلة الأول من كانون الثاني/يناير من عام 2000، بينما ذهب البعض الأكثر تفاؤلًا بالقول بانتهاء العالم الحديث كما عرفه الإنسان وعودته لعالم أكثر تأخرًا، والسبب في هذه الهستيريا كان أن أيًا من علماء الحاسوب لم يكن يعلم كيف سيتصرف الحاسوب حين تنتقل تسعاته الثلاث وواحده إلى أصفار ثلاث تسبق الرقم اثنين، والحقيقة أن هذا التندر كان يعني أننا ببساطة لم نكن قادرين على التنبؤ بسلوك أنظمتنا الحاسوبية بعد الثانية عشر بدقيقة؛ ذلك أن النظام كان معقدًا بصورة يصعب التنبؤ بنتيجة أي تغيير يصيبه.

انطلقت شرارة الفلسفة التشابكية مع مقال عالم الحاسوب الأمريكي داني هيلز "التنوير مات، فلتحيا التشابكية"

الكثير تغير منذ عام 2000 حتى اللحظة، لا باتجاه أبسط وأضح بل باتجاه أكثر تعقيدًا وأبعد عن فهم الإنسان، حتى لم يعد عالمنا الحالي بمؤسساته وآلاته ممكن الفهم بفلسفة جين جيرارد الخطية، التي تعتمد على التطور المضطرد المتقدم باتجاه يمكن فهمه بالتجربة والتعلم والتصور والتحليل، ولا حتى باستخدام الديكارتية القائمة على إعلاء الفكر وتحريض الشك؛ فذات التكنولوجيا التي رفهت حياتنا خلقت أنظمة عصية على الفهم أو التنبؤ، حيث تحاكي أنظمة الطبيعة أكثر من نماذج رياضية واضحة يمكن الإحاطة بها وتفسيرها، ولأن الإنسان تقاطع مع صنع يده وتفاعل معه تفاعلًا لا يمكن فصله عنه كما ذابت الحدود بين الطبيعي والمصنوع، بين العضوي والمختَرَع، وباتت المصانع في عصرنا هذا تشكل بيئتنا تمامًا كما تفعل الغابات وترتبط مؤسساتنا ومحركاتنا وأنظمتنا الاقتصادية والقانونية والاجتماعية وتتفاعل كما ترتبط أجهزتنا العصبية، قد يكون فجر التشابكية قد حل بينما أفلت أخيرًا شمس التنوير.

اقرأ/ي أيضًا: غوغل.. الأخ الأكبر الجديد

صراع العروش: الحاسوب يتسيد

انطلقت شرارة الفلسفة التشابكية مع مقال عالم الحاسوب الأمريكي داني هيلز "التنوير مات، فلتحيا التشابكية"، والمنشور في مجلة التصميم والعلم لعام 2016، يؤسس فيه هيلز لحركة تفاعلية وتبادلية معقدة، تنطلق من فكرة أولية مفادها أن أنظمة الحاسوب وشبكات التكنولوجيا المعاصرة حالت دون انطباق مادة التنوير الأساسية "فلسفة السبب والنتيجة" .

يرى هيلز في فكرته الجديدة أن الإنسان بدأ تاريخه المعاصر منطلقًا من حركة التنوير التي طوّع فيها بثورتيها الصناعيتين الأولى والثانية الطبيعة، فاكتشف مع بدايتها القوانين التي تحكم الكون وطوعها لكسر هذه القواعد وإعادة توجيهها وتوظيفها بما يخدم مصالحه ورؤاه، طرنا وغصنا وتحادثنا على بعد آلاف الأميال، جمدنا أصواتنا وصورنا وطوعنا الزمن. ارتدت أصداء هذه القوانين على أنظمتنا القانونية والاقتصادية والسياسية. فصلنا بين الطبيعة والإنسان، بين العقل والروح والمادة، بين السبب والنتيجة وتسيد الإنسان المشهد  حين تعلم السيطرة والتحكم.

تمخض عصر التنوير أخيرًا عن الحاسوب فكان درة العقلانية وحسابات السبب والنتيجة، علمنا الحاسوب كيف نتلاعب بالمعرفة، عملة عصر التنوير، بما يتجاوز مقدرة عقولنا، بنينا عوالم جديدة ولوجرثميات معقدة تمتلك سلوكات لا يمكن التنبؤ بها وبهذا دققنا أول صدع في أساس عصر التنوير كما يقول هيلز فكأنما كان التنوير يحمل بذرة فنائه في ذاته.

كان تاريخ التكنولوجيا على قصره غنيًا، وقفز قفزات هائلة فقد فيها الإنسان زمام السيطرة وتحول من سائق لراكب ومن فاعل لمشاهد في حضارته الأخيرة؛ فبينما كانت تعمل الحواسيب الأولى على أسطر قليلة من البرجمة يمكن نسخها منزليًا، حتى أن برامج وألعاب كانت تنشر أسطر برمجتها في المجلات، وما عليك سوى نسخها على حاسوبك مجانًا لتستمع بنتائجها حية تتحرك على شاشتك، تحتاج اليوم لبلايين الأسطر لبرمجة مايكروسوفت أوفيس مثلًا، وتحتاج إلى رفوف مكتبتك كلها لاستيعابها.

كان تاريخ التكنولوجيا على قصره غنيًا، وقفز قفزات هائلة فقد فيها الإنسان زمام السيطرة وتحول من سائق لراكب ومن فاعل لمشاهد في حضارته الأخيرة

بدأ الحاسوب بتحصين نفسه والنأي عن الفهم العام مع بداية دخول ستيف جوبز وعلامة ماك للسوق التكنولوجي، لم يعد ممكنًا كلما تقدمت منجات ماك نسخ برمجتها أو تقليدها محليًا دون شراء تلك البرامج المعقدة جاهزة من الشركة، مؤسِسة بذلك لمركزية المعرفة والخبرة التكنولوجية ولكن أيضًا لعصر التشابكية.

اقرأ/ي أيضًا: كتاب "الإنسان العاري: الدكتاتورية الخفية الرقمية".. محاكم التفتيش المعاصرة

قرابة ست سنوات مضت على نشر مقال هيلز الذي تنبأ فيه أن عصر التنوير ستنطفئ شمعته تمامًا ما إن نورث آلاتنا القدرة على التعلم والتكيف والخلق والتطور، فهكذا تتفوق آلاتنا علينا وتتمكن من خلق عوالم لم نتخيل يومًا وجودها. خلال هذه السنوات الست تجاوزت آلاتنا هذه العقبة وباتت أنظمتنا الذكية الآن تتواصل فيما بينها وتتشاور وتتشارك المعارف، وتصلح نفسها بصورة تحول معها الإنسان إلى لاعب ثانوي.

لكن أين يكمن الفخ في هذه المعادلة؟

وفقًا لأربسمان لا ينبع الخوف من السيناريو الدرامي الذي يبني نظامًا واعيًا يشن حربًا على البشرية بقدر ما يكمن في وجود نظام معقد يستعصي على الفهم، وبالتالي يصعب إصلاح أو فهم أي خلل فيه ناهيك طبعًا عن إمكانية تلافي أو التنبؤ أو التحكم المسبق بهكذا خلل. ورغم أن الطرح يبدو نظريًا بصورة بعيدة عن الحياة اليومية، فإن هذا التعقيد نال كل مناح الحياة المعاصرة وكلما ازداد اعتماد النظام على التكنولوجيا كلما زاد الأثر. خذ على سبيل المثال النظام القانوني الأمريكي المحوسب حيث يحوي 22 مليون كلمة وأكثر من 8000 رابط بين أقسامه المختلفة، خالقًا بذلك شبكة تكنولوجية قانونية معقدة لا يمكن فهمها أو الإحاطة بها مع تواصل إضافة المزيد من القواعد والأحكام باضطراد، كل واحد من هذه القوانين يعد منطقيًا على حدا أما جمعها فيتفاعل ويتقاطع بطرق مفاجئة وغير متوقعة. والمثال الأكثر شيوعًا حول هذه المعضلة هو قانون أوباما كير ObamaCare للتأمين الصحي والذي يجمع إلى القواعد القانونية أخرى حسابية، بلغت أنظمتها من التعقيد ما يؤثر على حياة كل أمريكي بينما لم يستطع المشرعون أو المبرمجون حتى اللحظة تدارك الثغرات في هذا البرنامج.

وداعًا للأخ الكبير أهلًا بجمهوريته

يتمثل ثاني مسمار دققناه في نعش التنوير بالمؤسسات التي أتاحت لنا أدوات تواصل لا محدودة، بنينا شبكات لا يمكن حصر قدراتها واتساعها. فمنظمة عالمية غير ربحية تمتلك عشرات الآلاف من الداعمين، لم يقابل أي منهم الآخر قادرين معًا على التصرف وتوجيه سياسات الحكومات وإعادة تشكيل العالم بتقاطع أو بدون من رؤوس أموال وأجندات سياسية واقتصادية عالمية. هذه الجماعات وفقًا لهيلز تمتلك قدرة تفوق مجموع القددرات الفردية التي تشكلها وتمتلك هدفًا مختلفًا عن أهدافهم الفردية كذلك. فهي تمتلك قدرة على التحكم بالموارد وفرصًا أقوى للنجاة والبقاء وهي قادرة على معالجة كمية من المعلومات أكبر بكثير من قدرة الأفراد ويمكنها التصرف في أمكنة وأساليب وجهود مركّزة جعلت الفرد يتراجع عن مكانته السيادية على عرش العالم.

حكم الشبكات المؤسساتية هذا لا يعني إلغاء الفرد بقدر تحييد دوره وإحاطته ببنية سيكولوجية ووظائفية مختلفة عن تلك التي حكمت وعيه فيما مضى

ولكن حكم الشبكات المؤسساتية هذا لا يعني إلغاء الفرد بقدر تحييد دوره وإحاطته ببنية سيكولوجية ووظائفية مختلفة عن تلك التي حكمت وعيه فيما مضى. في ثورتنا الصناعية الأولى المصاحبة لعصر التنوير والتي انطلقت شرارتها قبل أكثر من 200 عام ظهرت الطباعة وأدى التواصل المطبوع إلى استبدال الوعي اللاهوتي، الذي رافق الكتابة والتدوين في الحضارات الزراعية المائية، بالوعي الأيديولوجي، وما إن تحكمت اتصالاتنا الإلكترونية في ثورتنا الصناعية الثانية حتى ظهر وعينا السيكولوجي النفسي بمحيطنا وأنفسنا وبيئتنا الحاضنة.

اقرأ/ي أيضًا: المنصّات فقاعة وهمٍ

وحيث تبدو الثقافة الأحدث لا أخلاقية وفقًا للأخلاق التي تقود الثقافة القديمة بينما تبدو الثقافة القديمة مفتقرة للتعقيد وبدائية إلى حد ما؛ يرى ديفيد رونفيلدت في نموذجه TIMN (Tribes, Institutions, Market, Network) أن حضارة ما بعد الحداثة والتي يمهد لها عصر التشابكية ستكون مبنية على التكنولوجيا المعقدة وتتحكم فيها الشبكات وتحركها دعوات النقد وتعدد وجهات النظر. الملهم أن رونفيلدت ينظر إلى ما وراء الدعامات المجردة، إلى الأيديولوجيات والبنية النفسية التي ترافق كل عصر من هذه العصور، حيث إن عصر ما بعد الحداثة الذي تستهله التشابكية وتؤثث له سيتجاوز الشعبوية القبلية، كما سيجاوز الأصولية والعقائدية وحتى التكنولوجيا المسلحة ستصير وراءه، إن حالة عدم الوضوح والفوضى التي تسود حياة الفرد في عصر التشابكية ستقود وفقًا لرونفيلدت إلى حالة جمعية من العدمية والقدرية على حد سواء حيث تفقد الأمور معناها ويصير من الصعب التحكم في مجرياتها بصورة تؤسس لفقدان قيمي بالجملة.

أغنياء جدد بوجوه قديمة

يذهب علماء اقتصاد انضموا إلى ركب التشابكية إلى أن عصر التشابك يمهد بوتيرة متسارعة لثورة صناعية ثالثة يتشارك فيها الناس مصادر مفتوحة للطاقة بالطريقة التي يتشاركون فيها الآراء عبر الإنترنت؛ مستلهمين أن الجيل الجديد لم يعد يبحث عن إصلاحات للنظام الاقتصادي والسياسي العالمي بقدر شعوره بوجود خلل جوهري في هذه الأنظمة، ووجوب استبدالها برؤية اقتصادية توفر سياسة حكم رشيدة وتنظر للطبيعة كجزء حاضن وضروري للبقاء، ما يتطلب فهمًا معمقًا للقوى التكنولوجية التي من شأنها أن تعجّل في التحولات المجتمعية العميقة.

يرى ريفكين أن كل ثورة اقتصادية عرفها التاريخ تعاضدت فيها وسيلة اتصال وقوة طاقة تعملان معًا على نشر رقعة الثورة واتساع تأثيرها، فالقرن التاسع عشر تظافرت فيه الطباعة مع طاقة الفحم والبخار، بينما شهد القرن العشرين تظافر أدوات التخاطب المرئي والمسموع مع قوى الكهرباء والنفط. تتحكم معادلة تواصل/ طاقة لا بتنظيم المجتمع وحسب، ولكن أيضًا بتوزيع الثروات وبكيفية ممارسة السياسة وتسيير العلاقات الاجتماعية.

يذهب علماء اقتصاد انضموا إلى ركب التشابكية إلى أن عصر التشابك يمهد بوتيرة متسارعة لثورة صناعية ثالثة يتشارك فيها الناس مصادر مفتوحة للطاقة

بالنسبة لريفكين فإن الطاقة القائمة على الوقود الأحفوري من فحم ونفط وغاز طبيعي هي طاقة النخبة لوجودها في أماكن مختارة، تحتاج لاستثمارات عسكرية ضخمة لتأمينها وإدارة جيوسياسية مستمرة لضمان توفرها، وتتطلب أنظمة قيادة وتحكم مركزية وتركيز هائل لرأس المال في سبيل تحويلها للمستهلك النهائي. بالتالي فإن تركيز رأس المال مهم لأداء فعال ضمن الرأسمالية الحديثة، وقد خلقت هذه المعادلة وفقًا لريفكين ثروات مركزة بشكل ضخم رافقتها هوة في توزيع الثروات، يصعب تداركها ضمن محددات سوق لا يشترط أصلًا توزيع الثروة إلا في حده الأدني.

اقرأ/ي أيضًا: كاثي أونيل: الرياضيات "ستربتيز" مجاني

يرى ريفكين أن مصادر التكنولوجيا اليوم وبزوغ فجر التشابكية في علاقات السوق بالتكنولوجيا والطبيعة والإنسان، يؤثث بشكل مباشر وفعال لثورة صناعية ثالثة، من شأنها تغيير قواعد توزيع الثروات والطاقة. ترتبط مؤشرات الثورة الصناعية الجديدة بالتوجه نحو خلق شبكة طاقة متجددة مشابهة لشبكة الإنترنت، يتشاركها الناس بصورة مشابهة لصنع ومشاركة المعلومات عبر الإنترنت. ويتابع أن ثورة كهذه من شأنها دمقرطة السوق كونها تتطلب تشابكًا مصالحيًا وقراريًا يحل محل البطريركية السابقة، ويستبدل بأدوات التحكم المركزية الماضية أنشطة اقتصادية عالمية تعمل على تبادل الخدمات والمنتجات دون تكديس حقيقي ضخم لرأس المال. وهو ما يجر بدوره دمقرطة للحكم وتحولًا جذريًا في الساحة السياسية

يختلف آخرون بشأن هذه الرؤية الشيوعية الراديكالية، فوفقًا لنيل فيرجسون هناك فروق ثلاثة بين الثورة المتصلة بالعصر الحالي والثورة التي أعقبت الطباعة في أوروبا: فمن ناحية ثورتنا أسرع وتغطي رقعة جغرافية أكثر اتساعًا، كما أن النتائج التوزيعية للثروة متباينة، فالثورة الأولى خلفت فروقًا كبيرة في توزيع الثروات إلا أنها تكاد لا تقترب من الفروق الخرافية والسريعة التي خلقتها الشبكات الإلكترونية العملاقة رغم إدعائها نشر المعرفة والديموقراطية؛ فالإنترنت وفقًا لفيرجسون على عكس الحروب والثورات والتضخم العالمي، عاجز عن تخفيف حدة عدم المساواة، بل ومساهم فعال في عملقتها، وأخيرًا فقد عطلت الطباعة في أوروبا الحياة الدينية المسيحية وخلخلت أساستها، أما الإنترنت فقد خلخل حدود الاقتصاد والسياسة إلى حد ما، أما الدين فقد اقتصر أثره العميق على دين واحد هو الإسلام.

حساء بدل السَلطة

يستوجب عصر التشابكية بالضرورة اختلاط العلم بالطبيعة اختلاطًا لا يمكن فصله، حيث يصير الإنسان قطبة محكمة وأصيلة في هذا النسيج المذهل كجزء متشابك ومتكامل ومتفاعل.

إن التطور في عصر التشابك يعتمد وفقًا لهيلز على خلط العناصر وتجميعها لا تفكيكها وفحص مكوناتها

إن التطور في عصر التشابك يعتمد وفقًا لهيلز على خلط العناصر وتجميعها لا تفكيكها وفحص مكوناتها، نحن نخلق اليوم عوالم بدل اكتشافها ونبني حياة بدل تصنيفها. فهيلز يرى أن البطريركية والتراتبية التي حكمت البشر لعصور خلت قد تفككت بالفعل، ولم يعد تفكيك العالم إلى أجزاء أبسط قادرًا على شرح عمل الكائن الكلي المعقد، بل مراقبته يتصرف ويتحرك ويتفاعل وفهم طبيعة سلوكاته هوما يزود عصرنا هذا بالفهم والمعرفة. وعليه لم يعد تحليل المجتمعات والحكومة والسوق والاقتصاد كل على حدا دقيقًا أو ممكنًا في زماننا هذا حيث شبكة العلاقات التي تحكمها معقدة ومتداخلة بصورة أفقدت المنطق القائم على السبب والنتيجة جوهره.

اقرأ/ي أيضًا: رسالة إلى سكان ومديري الميتاڤيرس

وأسوة بالمتخصصين من كل علم الذين تبنوا رؤية التشابكية وقالوا بها منذ 2016 وحتى اللحظة، فإن مؤسسة دورة كريبس للإبداع الإنساني أوكسمان  ترى أن ثقافة العصر تقوم ابتداء على العلاقة المتبادلة بين أركان أربعة: العلم، والهندسة، والفن، والتصميم، وأنه في الوقت الذي يعتبر المقيم في إحدى هذه المساحات سائحًا في أخرى، يقدم عصر التشابكية فرصة للتنقل الدائم بين مساحات مزالة الحدود.

وفقًا لدورة كريبس فإن المساحات بين الأعمدة الأربعة والحدود بين الطبيعة والثقافة تعتمد على الكيفية التي يبدأ العلم فيها بتحويل المعلومات إلى معرفة وطبيعة العوامل المساهمة في ذلك، حيث تحول الهندسة المعرفة لخدمات بينما يحول التصميم الخدمات لسلوك، ثم يأتي الفن أخيرًا ليعيد شرح وتحليل السلوكيات لرؤية جديدة للمعلومات التي يستلهمها العلم لبدء دورة جديدة، يدور فيها الزمن بين الطبيعة والثقافة. بالنسبة لأوكسمان، إذا كان التنوير سلطة من هذه المكونات الأربعة فإن التشابكية تعد حساءها.

الخطة "ي"

ماذا بعد؟ هل آن أوان أن نتقبل الفوضى ونتخلى عن القواعد الواضحة ونعترف أخيرًا أن الإنسان ليس سيد هذا الكون؟

استسلامنا لا يعني بالطبع أن نعود للإيمان بالسحر والشعوذة كمحرك للظواهر التكنولوجية الغامضة، إذ إننا الآن نعرف أفضل من ذلك، لكن الوقوف كمتفرج بينما تقود التكنولوجيا حياتنا مفلتين لها الزمام لتخطأ وتصلح ذاتها، أو تلتف على أخطائها بسلوكات يصعب علينا التنبؤ بها، هو الخوف الأعظم في عصر التشابكية.

نعيد الآن تقييم علاقتنا مع ما صنعته يدينا من مؤسسات وتكنولوجيا كما تعاملنا قديمًا مع الطبيعة

نعيد الآن تقييم علاقتنا مع ما صنعته يدينا من مؤسسات وتكنولوجيا كما تعاملنا قديمًا مع الطبيعة؛ لا كأسياد ولكن بخوف أولًا، ثم نصاحبها لنطوعها ونساومها ونمسك بيدها باتجاه أهدافنا، فهيلز يرى أن علينا أن نخلق حالة من التوازن والمحاسبة نتأكد من خلالها أن آلاتنا تسير وفق أهدافنا، ولا تحيد وعلينا أن نستخدم في سبيل ذلك أدوات غير تلك التي أورثنا إياها عصر التنوير، لأننا سنقلق حينها بشأن السلوكات غير المتوقعة لآلاتنا أضعاف ما نقلق بشأن الأحوال غير المتوقعة للطبيعة.

اقرأ/ي أيضًا: موت المثقف وتسيّد التقني

ولكن هل هذه الرؤية المشوشة أساسًا كافية؟ بينما لا ينكر سلاتر أفول عصر التنوير، يتجه بحدة نحو إعادة توليده بعملية عكسية حيث الخروج من التشابك باتجاه التنوير مرة أخرى يحتاج إلى أدوات تفكيك معقدة تختلف عن تلك التي ولدها عصر التنوير. فالبنسبة لسلاتر التنوير الذي زودنا بأدوات لفهم العالم حيث نراقب ونضع فرضيات ونتنبأ بسلوكات ونختبر كل ذلك لنخلص إلى قواعد وقوانين واضحة انتشلت الإنسان مع عهد الغموض والتيه لم يعد صالحًا في خضم عوالم معقدة تكشف عن نتائج غير متوقعة ويصعب التنبؤ بها. غير أنه يرفض العودة بالإنسان مرة اخرى إلى مساحة الظل، حيث قوى غامضة تتحكم في مصيره بينما يتخبط هو على غير هدى، وعليه فإن النتائج غير المتوقعة تدفعنا لا إلى الجلوس والانتظار ولكن لوضع فرضيات احتمال مشروطة بدلًا من الإتكاء على إحصاءات مطلقة مؤكدة النتائج كحالنا في عصر التنوير. وبينما يرى سلاتر أن التشابكية تمثال التكوين العضوي للإنسان في غموضها وتشعبها حيث الإنسان مخلوق معقد بالأساس، لكنها لا يجب أن تحكمنا دون أن نروضها.

وبينما اختصر هيلز مقاله الذي أطلق سيلًا من النقاشات بعده بقوله "لقد صنعنا دغلًا يملك حياته الخاصة"، فإننا نعود اليوم للوقت السابق على انطلاق حركة التنوير حيث كان الناس يؤمنون بوجود حدود لمعرفة الإنسان لا يمكن أن يتخطاها ربما آن الأوان أن نعترف بحدودنا ونتصالح مع حقيقة وجودها. إنها مساحة مفتوحة على احتمالات الخير والشر حيث أن نية الخير وحدها لا تكفي، إن اخطاء ستقع بلا شك.

 

اقرأ/ي أيضًا:

أرواحنا الالكترونية: من هاراوي إلى سكوت

الحروب السيبرانية.. تكاليف أقل وخسائر أكبر