19-يوليو-2022
فرج الله صالح ديب

فرج الله صالح ديب

لم يكن موته محسوبًا في مفكرتي. كان فرج الله صالح ديب صديقًا ومعلمًا، لكننا بخلاف ما يفعل الأصدقاء عادة لم نكن نثرثر كثيرًا معًا. كنا نؤجل الكلام والثرثرة إلى ما بعد. إلى زمن يكون المرء فيه قد أنهى مشاغله السائرة وبات مستعدًا ليبدأ التعرف العميق على آخر يكن له الود. هكذا أمضينا هذه العلاقة في الانتظار. ينتظر من جهته أن أفرغ من مشاغلي التي من دون إنجازها يصعب عليّ أن أستمر حيًا، وأنتظر من جهتي أن تمنحه الحياة وقتًا كافيًا لإنجاز مشاغله. صداقتي معه ابتدأت على هذا النحو منذ أن تعارفنا قبل ما ينوف على الثلاثين عامًا.

تعرفت إليه أول مرة في بدايات عملي الصحفي، وكان يومها كاتبًا مكرسًا ومؤرخا معتبرًا. كنت مستعجلًا لحرق المراحل، قراءة الكتب التي لم أقرأها بعد، كتابة كل ما يخطر في ذهني المقاتل، ومشاكسة كل ما ومن يعترض طريقي إلى هذا العالم. لم يكن وقتي متسعًا، وكان يملك الوقت كله، الذي يمكّنه من الانتظار. لقد ولدت علاقتنا كما تنشأ علاقة بين أب وابنه. يعرف أن ابنه سيخوض غمارًا، بعضها لا لزوم له، وبعضها سوف يكوي ذاكرته وجسمه، وثمة وقت يجب أن ينفقه قبل أن يهمد، ويلتفت إلى ما حوله ومن حوله. وكنت من جهتي أراه مستقرًا على سمته، وينتظر بهدوء العارف أن ألجأ إليه ذات يوم لأتعلم.

ثمة كتب تمر في حياتنا، تبدو كما لو أنها أعمدة يقوم عليها بناؤنا كمثقفين. كتب تحسم لنا النقاش منذ البداية وتعيننا على الالتفات إلى قضايا أخرى لم تحسم في أمرها كتب أخرى

لم يعلمني كإنسان. وحتى كتبه التي قرأتها يومذاك، لم تعلمني. هذا إذا كان التعليم يعني تدريبًا على مواجهة تدابير العيش. كانت تلك الكتب بالنسبة لي كما لو أنها مبان جاهزة للسكنى. لا حاجة للاعتراض عليها، تشبه الحقائق، إذا لم تكن حقائق فعلًا. وكنت أقرأها كما يمشي المرء في طريق ويعرف أنها طريق، أو كما يغرم المرء بصوت ويعرف أنه صوت. كتبه كانت تزيح عن كاهلي بعض الثقل الذي أحمله. في هذا التأريخ الذي أنجزه كاتبًا، رفع عني بعض الأثقال التي كانت ستثقل كاهلي لو أنه لم يكتبها. المعادلة كانت على هذا الوجه من البساطة: ما يكتبه فرج الله صالح ديب يقنعني تمامًا. ولأنه مقنع إلى هذا الحد، أستطيع أن أتحرر من ثقل هذا الميدان الذي يخوض فيه، وأتركه له بكليته، لينجز ما يحب إنجازه ولأقرأ ما أنجزه بعقل من يقرأ وقائع وحقائق.

فرج الله صالح الديب

هل كانت كتب فرج الله صالح ديب موثقة إلى الحد الذي لا يرقى إليه شك؟ ربما لا، لكنها بالنسبة لي كانت كذلك. ثمة كتب تمر في حياتنا، تبدو كما لو أنها أعمدة يقوم عليها بناؤنا كمثقفين. كتب تحسم لنا النقاش منذ البداية وتعيننا على الالتفات إلى قضايا أخرى لم تحسم في أمرها كتب أخرى. كما لو أن هذه الكتب وكاتبيها، يمنحوننا هدايا لا تقدر بثمن. من دونها كان يجدر بنا أن نمضي جل أعمارنا ونحن نحاول فك ألغاز ما تنطحت لفك ألغازه. هكذا نرمي على هؤلاء الكتاب ثقل هذه القضايا ونكلفهم هم مواجهة الناقدين والمعترضين، وليس علينا سوى أن نؤمن بالخلاصات التي توصلوا إليها.

هكذا بدا لي فرج الله صالح ديب ككاتب ومؤرخ، لكنه بدا لي على النحو نفسه كإنسان وصديق. لقد أورثني ما ملكه عقله منذ يفاعتي، لكنني لم أشاركه ما أنجزته حين اشتد عودي. كنت أؤجل رد المعروف كما لو أنني ما زلت يافعا، وكما لو أنه خالد ولا يموت.

اليوم مات. لم أنجز تجاهه ما كنت أود إنجازه. الحياة تستمر طبعًا، لكنني أعرف أنني خسرت حبًا كبيرًا، وخسارة الحب تعادل في ألمها خسارة الحياة.