05-يونيو-2017

دفتر صادق كويش الفراجي/ العراق

يوم الخميس الماضي الذي وافق الأول من حزيران/يونيو، كان هو المتمّم لمسيرة تعليم امتدت ثمانية عشرعامًا، حيث كان موعدي مع أداء امتحان المادة الأخيرة، داخل قاعة "110" بمبنى قاعات الامتحانات التي تقع في الجانب المتاخم لكلية الإعلام جامعة القاهرة، القاعة كبيرة تصطف فيها المقاعد يجلس عليها ما يقرب من خمسين طالبًا، نؤدي معًا امتحان مادة "الصحافة المتخصصة"، التي تعمّد أستاذ المادة أن تكون الأسئلة عملية لا ترتكز إجاباتها على مدى حفظك للمنهج، بل على قدر فهمك وإلمامك بضمون الكلمات والتي تخرج منها بفهم خاص تضعه في سياق الإجابة التي يريدها.

الامتحان كان عبارة عن ثلاثة أسئلة، والتي من المفترض أن نجيب عليها في مدة لا تتجاوز ساعتين، ينقسم السؤالان الأولان إلى (أ - ب)، بعكس السؤال الأخير الذي كان عبارة عن سؤال واحد فقط، فيما تتوزع الدرجات الخمسون عليهم جميعًا. حاولت فيها أن أصوغ إجابتي بالطريقة التي أرادها، وفي الوقت ذاته ألتزم بما يخبرنا به دائمًا في امتحاناته "مع مراعاة استخدام لغة صحيحة"، إجابتي كانت عبارة عن مزج بين ما استطعت أن ألملمَه وما أملته عليّ مخيلتي، محاولًا بذلك مداراة تخبطي في الوصول إلى الإجابة الأنسب.

بين الحين والآخر، يأتيك صوت المراقب من أول القاعة ينبهك بالوقت المتبقي، الذي يصرفك به عن تفكيرك ويشتت انتباهك ويزيد من حدة توترك، "باقي ربع ساعة" قالها المراقب بصوت زاعق تردد صداه في أرجاء القاعة التي فرض عليها الامتحان جوًّا من الخوف والسكون، في الوقت الذي لفظ فيها عبارته تلك كنت على وشك البدء في السؤال الأخير، والذي كان بداية رحلة قصيرة المدى انفتحت على ماضٍ ضيق مدته "أربع سنواتٍ"، هي الفترة التي كنت فيها طالبًا أرتاد كلية الإعلام وأتردد على قاعاتها وأتجول في طوابقها.

"خطّط لإصدار مجلة متخصصة، محددًا أهم الخطوات التطبيقية وملامح سياستها التحريرية"، كان هو السؤال الأخير، الذي تفجرت معه بداخلي كل الذكريات، بعد أن قرأته شرعَت ذاكرتي في الارتداد في عملية ديناميكية أشبه بالفلاش باك، وأخذت تسحبني إلى الوراء، ووجدتني مدفوعًا أستسلم لها. من بين كل الحكايات التي تمثلت لذهني وقتها، هناك حكاية كانت هي الوحيدة التي تذكرتها، وبتذكرها تذكرت كل شيء، إنه نوع من التذكر الذي يجعل الأشياء تنبت فجأة أمامك، وتتجه إليك من تلقائها وتصبح غير قادر على نسيانها، كعادة الماضي الذي ينكأ جراحًا لا يستطيع في الغالب تضميدها، وتأخذ وقتًا حتى تلتتئم ومعها تفقد قدرتك على المواجهة والاعتراف، فكل دروب التذكر لا تقود إلا إلى الوحشة بطريقة أو بأخرى. 

أعادني السؤال إلى بدايات السنة الثالثة تحديدًا، وهي التي أجلَت لي الواقع الذي عشتُ فيه سنتين كاملتين وتبدت لي صورته الحقيقية، بها بدأتُ أدرك الهوة الكبيرة بين ما ندرسه في مدرجات الكلية وبين ما يتطلبه سوق العمل، وأن ما نقوم بدراسته ما هو إلا تغريد على هامش واقع يرى عدم جدوى ما يدرسه الطلاب داخل جدران الكليات، وأن التعليم الحقيقي هناك في صالات التحرير، التي تجعلك تحتك احتكاكًا مباشرًا بالواقع وبالحياة عمومًا.

من هذا المنطلق بدأت أفكر في بناء مشروع خاص أكون جزءًا منه، مع آخرين غيري نتشارك سويًّا تأسيس هذا الشيء الذي رسمناه نحن التسعة فيما بعد، عبر اجتماعات كنا نقتطعها من بين محاضراتنا، أو في نهاية يوم دراسي طويل على السلالم الخلفية في أحد أدوار الكلية، فكان الاسم "مداد" والمضمون ثقافي، يحرر كل واحد منّا بابًا في الشيء الذي يحب أن يكتب فيه، بعد أن يكون قد وضع تصورًا له ووافقه الجميع عليه.

السؤال جعل قصة مداد تثب إلى ذهني وتفرض نفسها على ورقة الإجابة، وتحت تأثير هذا الحصار المحكم لذاكرتي صرتُ أكتب كل شيء عنها، وأستطرد في تفاصيلها متعمدًا، وأوُرد معها الأسباب التي جعلتني اختارها هي بالذات، محددًا جمهورها الذي أردنا أن نصل بها إليه.

عندما وصلت إلى التصور المتعلق بالمضمون الذي ستقدمه، توقفت محركات الذاكرة عن الدوران صرت أستحثها على التذكر لأن الوقت المتبقي من الامتحان ليس أكثر مما مضى، وفجأة خطرت لي فكرة استطاعت أن تنتشلني من وهدة هذا السقوط الذي أردتني فيه الذاكرة فجأة، ووضعتني على قمتها لأرى الأشياء بشكل أوضح، وهو أن أسترجع كل فكرة بتذكر صاحبها، أنقذني استحضار صورتهم من فعل النسيان الذي استبد بي وبذاكرتي فجأة. وأخذت أرتب أبوابها في ذهني قبل أن أدونها لتكون هي آخر عهدي بدفاتر الإجابة "كتاب على الرف- جوا الكادر – كرتونك عندنا- كلام في المسرح- لقطة- فنجان قهوة- حكي التاريخ- فيلوسوفيا- إشكاليات مثارة- إبداعات".

زُهاء عشر دقائق وأنا أكتب وأمحو وأشذب كي تخرج الإجابة في النهاية بالشكل الذي يرضيني، ويرضي أستاذ المادة. لم يتبق إلا دقائق معدودة قلبت فيها ورق الإجابة ومعها كنت أقلب أوراق الذاكرة المتناثرة على بقعها الناتئة. استطعت أن ألتقط ورقة صغيرة مدون عليها تاريخ يعود إلى 9 أيار/مايو العام الماضي، كان هو يوم افتتاح المجلة بعد شهور من استجداء عطف الكلية كي تسمح لنا أن يكون الافتتاح أمامها، وعندما وصل بنا السأم إلى مداه أدركنا أنه لا بد لهذا الافتتاح أن يكون خارجها وقد كان.

أتذكر هذا اليوم جيدًا، عندما خرجت في صبيحة يوم تستقر شمسه في سماء صافية ترسل أشعتها بحنو إلينا كي نستمد منها أملًا يحدو بنا إلى النجاح الذي كنا نأمله من وراء هذا العمل الذي تعبنا عليه شهورًا، والذي رأيناه بعد توزيع الأعداد يلمتع في عيون أصدقائنا الذي جاؤوا لخاطرنا كي يشاركوننا هذا الانتصار، مرصعين إياه بكلمات التشجيع والحفاوة بنا، لا زلت أجد وقعًا لها حتى الآن.

وكلما تداعت المجلة إلى ذاكرتي جذبت معها هذه الكلمات، وبالأخص تلك الرسالة التي تركها أحد الأصدقاء في فريق العمل، أوضح لي فيها عن مدى امتنانه لتلك التجربة التي أسعده أن يكون جزءًا منها، هو نفس الشخص الذي ترك رسالة أخرى يتأسف لي فيها، عندما أعرب الفريق عن عدم قدرته على الاستمرار. تخفف هاتان الرسالتان تحديدًا من وقع الخيبة كلما تذكرت نهاية هذا العمل الذي علقنا عليه آمالًا كثيرة ثم قفلنا عائدين منه محملين بمزيد من اليأس والخيبة.

في ربع ساعة فقط تذكرت كل شيء، وجالت في خاطري كل التفاصيل والأحداث وتقافزت فيها صور الأربع سنوات الأخيرة، وأنا أحاول أن ألملم أطراف حلم مُرتقب، وأجر أذيال خيبة كانت تحاول أن تتشبث بأهداب أمل زائف، أتذكر العابرين والراحلين، ومعهم أتذكر الحاضرين أيضًا، أتساءل لماذا رحل هؤلاء تحديدًا وبقي آخرون، الذين هم حولنا الآن، أعادني هذا الكلام إلى شيء كنت قد آمنت به منذ فترة بحيث أصبح بمثابة قاعدة مسلمة، أرفعها في وجه الأحداث والعوارض التي تطرأ على حياتنا بصفة مستمرة، هذه القاعدة تقول أن لا أحد يعرف كيف ترتب الحياة نفسها، يحسب المرء أن قصة ما قد انتهت فإذا هي تبدأ.

 

اقرأ/ي أيضًا:

ابن اللّيل

كآخر غريبٍ في المحطّة