14-ديسمبر-2019

جبران تويني (النهار)

في سياق المخاض الثوري الذي يعيشه لبنان، يصبح مرور ذكرى شهداء الكلمة الحرة ذا دلالة مضاعفة، للتأكيد على المضامين التحررية التي تحملها هذه الثورة، وللتدليل على السياق العام الذي تتضمنه بعد المحاولات التي تبذلها قوى الثورة المضادة، لإفراغ هذه الانتفاضة من مضامينها ودلالاتها.

بعد 14 عامًا من اغتياله، لا يزال قتلة الكاتب والنائب اللبناني جبران تويتي طلقاء، خارج أي محاسبة أو ملاحقة

في الـ12 من كانون الأول/ديسمبر الجاري، مرت الذكرى الـ14 لاغتيال الكاتب والنائب اللبناني جبران تويني، الذي لقي مصرعه إثر انفجار هز المنطقة الصناعية في إحدى ضواحي العاصمة بيروت عام 2005.

اقرأ/ي أيضًا: حكومة حزب الله - الأسد.. لبنان الجحيم

بعد 14 عامًا من اغتياله، ما زال قتلة جبران تويني طلقاء خارج أي محاسبة أو ملاحقة، إذ تم تمييع المحكمة الدولية الخاصة باغتيال رفيق الحريري، والتي توسعت لتشمل جميع الضحايا اللبنانيين الذين سقطوا خلال موجة القتل الممنهج في 2005، وما بعدها.

ومع بداية الثورة السورية وإمعان النظام السوري في عمليات قتل الثوار السوريين، كان من المفترض أن يكون للإفلات من العقاب نهاية أخيرًا، لكن هذا لم يحصل حتى اللحظة.

ما بعد 2005

النظام السوري الذي فتك بثلاثة شعوب مجتمعة: السوري واللبناني والفلسطيني، لا يزال يقتل بدم بارد وبضوء أخضر دولي، وهذا يقول الكثير عن الحرية و العدالة كمبادئ كونية تبقى خاضعة للصفقات والابتزاز السياسي في عالم اليوم، وبين القوى العظمى المسيطرة عليه، فيما نحن نستعيد ذكرى هذا الكاتب أو ذاك الصحفي أو ذلك المناضل، في تقليد كتابة سنوي يبدو مضجرًا، ليس من زاوية السأم من استحضار ذكرى هؤلاء، بل لأن دماءهم لا زالت تقطر من يدي القاتل المعلوم والمستمر.  

تغير الكثير منذ العام 2005 وحتى اليوم، فنظام الأسد اليوم ليس هو النظام ذاته على صعيد الفاعلية الإقليمية، بل حتى على الصعيد الداخلي السوري، فالثورة السورية صَدَعتْ هذا النظام وخلخلته. وهو، أي النظام، بات اليوم مسلوب السيادة والقرار على يد حلفائه.

يجعل هذا اللبنانيين، مرتاحين نسبيًا في انتفاضتهم اليوم، وإذا ما أضفنا إلى ذلك الانشغال الإيراني الذي يحد من فاعلية أداته في الداخل اللبناني، أي حزب الله؛ بات من الممكن القول إن سوء الطالع وعامل الزمن لم يكن في صالح شهداء لبنان الذي سقطوا في هجوم النظام السوري وحزب الله، بعد انسحاب نظام الأسد من ذلك البلد.

ما بين انتفاضة 2019 وانتفاضة 2005

إن مراقبة ومتابعة تطورات الوضع اللبناني منذ 17 تشرين الأول/أكتوبر 2019 وحتى اليوم، يجعل المرء يستحضر انتفاضة الاستقلال أو ما عرفت بثورة الأرز في 2005، من زاويتين:

الأولى: تكمن في الفارق بين الانتفاضتين، من ناحية خطاب كل منهما ومن ناحية الشعارات وتموضع الحامل الاجتماعي والديمغرافي فيهما، والهدف المراد من هذه وتلك.

الثانية: معطوفة على الأولى، هي أن كلًا منهما واجهت خصمًا يبدو القتل والتنكيل عاملًا أساسيًا لدوام سيطرته وهيمنته على لبنان: حزب الله والنظام السوري والإيراني سابقًا، وهؤلاء ذاتهم حاليًا، وإن بدرجات متفاوتة، وحزب الله بشكل أساسي اليوم.

فحزب الله، والسلطة اللبنانية التي تدور في فلكه، هي تشكيلات غير سياسية، بنى فوق التاريخ، لا يمكن للإصلاح السياسي والاقتصادي أن يعمل ويؤثر فيهما. وهذه كانت المعضلة الأساسية عام 2005 أيضًا، فحزب الله كان يدافع عن ذاته دفاعًا وجوديًا وبأدوات بلغت ما بلغته من درجات الانحطاط في القتل، كونه يعرف أن استقلال لبنان، وقيام ديمقراطية فيه، يعني إنهاء الحزب ومن يدورون في فلكه بالشكل الذي قام وما يزال يقوم عليه.

إنها مسألة بنيوية إذًا، ومستمرة حتى اليوم، حيث المعركة المصيرية للحزب وللسلطة اللبنانية (وجزء من هذه السلطة كان حليف النظام السوري في أعوام الهيمنة السورية على لبنان)، وهو لن يدخر جهدًا لحرفها عن مسارها وتشويه سمعتها وضربها كما حصل على أكثر من صعيد، على جسر الرينغ وفي ساحتي الشهداء ورياض الصلح.

استحالة التصالح مع بنى ما فوق التاريخ

ما تقوله الانتفاضة اللبنانية هو أن المصالحة مع بنى ما فوق التاريخ، وهي بنى لا تعترف بالسياسة، هو أمر مستحيل، وأن المواجهة مسألة حتمية، كما كانت مواجهة الشعب السوري مع نظام دمشق أيضًا. إنها بنى ومليشيات وأنظمة "كل شيء أو لا شيء". التكلفة والضريبة في سوريا كانت عالية، ما يُؤمل عكسه في لبنان، وإن كانت المؤشرات تقول غير ذلك، ولا تنبئ بالخير!

خسر لبنان جبران وتويني وسمير قصير وجورج حاوي، كما خسر قبلهم مهدي عامل وحسين مروة وسهيل طويلة وميشيل واكد ونور طوقان وأحمد المير الأيوبي وخليل نعوس وسليم اللوزي وكامل مروة.

ما تقوله الانتفاضة اللبنانية أن المصالحة مع بنى ما فوق التاريخ التي لا تعترف بالسياسة، هو أمر مستحيل، وأن المواجهة مسألة حتمية

هؤلاء كلهم سقطوا في قافلة الحرية، ويتمنى المرء أن ينتهي هذا المخاض الصعب في المنطقة وتستقر الأمور على حال يمكن للمرء فيه أن يكرمهم بأن يسمي شوارع وساحات باسمهم. لبنان من دون هؤلاء بلد أكثر وحشة، ولبنان بانتفاضته اليوم بلد أكثر قدرة على إعادة الأمل في منطقة يلفظ فيها الأمل أنفاسه الأخيرة.

 

اقرأ/ي أيضًا:

الإقطاع السياسي اللبناني.. "ع السكين يا جمهور"!

أوجه مشوهة لـ"دبلوماسية" النظام السوري