15-يونيو-2021

شهداء الثلاثاء الحمراء، جمجوم والزير وحجازي (عرب48(

ثمّة حزن قديم متعلّق بحزيران يلفّ أيامه جميعها وتعجّ فيه أيامنا. القهر في ذكريات هذا الشهر تفتك بالرّوح، ويكاد لا يمرّ أي حزيران من أعوامنا إلا ليتكدّس فيه الكرب، كأنه يؤذن ضمن موقعه منتصف العام أن تمام الشهور لن تأتي بخير. سلسلة أحزان وانكسارات تخللتها هزيمة سمّيت زورًا بالنكسة، وكأنها استثناء في تاريخ الهزائم العربية الرسمية، وكبوة عابرة. لقد كانت تلك التسمية مارقة، وفلتة دعائية نادرة لا يُعرف من أتى بها لوصف تلك الكارثة التي كرّست الاحتلال والاستبداد في آنٍ معًا، بل كانت الحفرة الأكبر التي ابتلعت كل ما سبق من خسائر ونكسات عبر استكمال الاستيلاء على فلسطين، ما يجعل الوصف الأدق لهزيمة حزيران أنها نكبة مضاعفة، أو بالأحرى تأبيد للنكبة ولنتائجها.

 الوصف الأدق لهزيمة حزيران أنها نكبة معمّقة، أو بالأحرى تأبيد للنكبة ونتائجها.

ثم انضاف إلى شؤم حزيران العربيّ هزّة كبيرة أخرى، أتت على شكل اجتياح إسرائيلي للبنان عام 1982، وصل فيه الغزاة إلى بيروت ليقتلعوا منها فصائل المقاومة الفلسطينية المسلّحة، وغيّر وجه المدينة وروحها إلى اليوم.

لكن ثمّة حزيران سابق على تلك الحزيرانات المريرة السوداء. حزيران مرّت عليه 91 عامًا، وذلك حين حكمت المحكمة البريطانية العسكرية التابعة لحكومة الانتداب البريطاني بالإعدام شنقًا على 25 عربيًا، ونفّذ الحكم بثلاثة منهم، في سجن عكا، في 17 حزيران/يونيو من العام 1930، وهم الأبطال عطا الزير، ومحمد جمجوم، وفؤاد حجازي.

ففي آب/أغسطس من العام الذي سبق تلك الجريمة البريطانية، اندلعت في فلسطين انتفاضة سميت بثورة البراق، التي نشبت احتجاجًا على استفزازات اليهود المتكررة في المسجد الأقصى، ومحاولتهم فرض أمر واقع على الجدار الغربي للحرم القدسي المعروف بحائط البراق، وتحويله إلى كنيس. وقد نظمت حركة "بيتار" الصهيونية المتطرفة مسيرة حشدت فيها أعدادًا كبيرة من اليهود في القدس، وكان ذلك في منتصف آب/أغسطس 1929، فنظّم الفلسطينيون احتجاجًا على تلك الانتهاكات، واندلعت اشتباكات عنيفة امتدت إلى عدة مدن فلسطينية، اشتدت ضراوتها في الخليل وصفد تحديدًا، وغيرها من المدن الفلسطينية. 

يروي أكرم زعيتر في مذكراته أحداث تلك الثورة وأيامها وما تخللها من حوادث واعتداءات، وأحصى الشهداء الذين تجاوز تعدادهم 120 شهيدًا وثقت أسماؤهم، أغلبهم برصاص الجنود الإنجليز. أما عدد الجرحى فقد بلغ أكثر من 240 جريحًا. أما من اليهود، فقد قتل بحسب الأرقام البريطانية 135 شخصًا، وجرح منهم 340.

في 31 آذار/مارس 1930، أذاعت سلطة الانتداب بلاغها الذي أعلنت فيه أسماء من حكم عليهم بالإعدام، وكانوا 25 شخصًا، أحد عشر منهم من الخليل، والبقية من صفد، إضافة إلى يهودي واحد فقط. وجاء في البلاغ أن المندوب السامي قد ارتأى تطبيق حكم المؤبد عليهم بدل الإعدام، باستثناء ثلاثة فقط، وهم فؤاد حجازي، وعطا الزير، ومحمد جمجوم، كانوا كما وصفهم زعيتر، "القافلة الأولى للشهداء المصلوبين في حركتنا الوطنية".

يروي زعيتر في يومياته وقائع يوم الإعدام واليوم الذي سبقه، وكيف استعد الناس واتفقوا على تكريم الشهداء الثلاثة: "يجتمع الجمهور يوم الثلاثاء [17 حزيران] في نادي جمعية الشبان المسلمين، وفي الساعة الثامنة حيث يُعدم البطل الأول، يقفون احترامًا للروح الصاعدة إلى بارئها تشكو إليه ظلم الظالمين، ويقرأون الفاتحة ثم ينشدون أنشودة: "يا ظلام القبر خيم". وكذلك يفعلون في التاسعة والعاشرة، ثم يسيرون إلى المسجد الصلاحي الكبير، حيث تتلى آيات من القرآن الكريم والدعاء إلى الله أن يفرج كربتنا وأن يرحم شهداءنا. وبعد صلاة الظهر، تسير المظاهرة إلى الكنائس التي توالي قرع النواقيس، وتسافر الوفود إلى عكا صبح الثلاثاء، للاحتفال بدفن الشهداء وتعزية ذويهم".

كانت تلك الثلاثاء الحمراء يوم إضراب شامل في فلسطين. "هياج عام، ومع الهياج وجوم وأسى". ارتفعت على أسطح البيوت الأعلام السوداء، وتحدث الجميع عن الاستشهاد والبطولة والغضب، وطاف طلاب المدارس في نابلس وغيرها ينشدون "يا ظلام القبر خيّم"، والتي صيغت على لحن أنشودة "يا ظلام السجن خيم" التي تُنسب إلى نجيب الريس، وعارضه فيها أستاذ من عكا يدعى ناصر عيسى، ليحكي فيها واقعة إعدام حجازي وجمجوم والزير، وجاء فيها:

حسبوا الإعدام يفني     ذلك العزم الهماما

ويحهم بالحق لسنا         نرهب الموت الزؤاما

يا بني قومي وداعًا       واحفظوا ذاك الذماما

علموا الأجيال أنا         فتية متنا كراما

 

ومن عجيب ما يروي زعيتر عمّا حدث يوم الإعدام أن محمد جمجوم حين خرج من زنزانته نحو المشنقة قد سار بعنفوان وثبات "بخطى ثابتة، ووجه مشرق"، وأعلن في كلماته الأخيرة قائلًا: "الحمد لله الذي قدر لي أن أُشنق في سبيل الدفاع عن ديني وبلادي". وكانت والدته قد أُدخلت عليه لوداعه قبل الإعدام، فقالت له معاتبة بعد أن حاول أن يهوّن عليها مصابها: "أتريد يا ولدي أن تعزيني؟ وأي شيء أشرف من هذه الموتة؟ يكفيني فخرًا أن الناس جميعًا يذكرونك، وسيبقى ذكرك خالدًا"، وهذا ما كان.

اقرأ/ي أيضًا: البحث عن شهيد

أما فؤاد حجازي، فكانت له وصيّة مكتوبة خطّها قبل إعدامه، جاء فيها موجها خطابه إلى أخويه يوسف وأحمد حجازي: "إن [أخاكما] لم يخلق إلا لهذه الساعة، وله الشرف الأعلى بأن يقضي في سبيل القضية العربية الفلسطينية". وقال قاصدًا أخاه الصغير أحمد: "لقد تأثرت من قولك في زيارتك الأخيرة لي إنك ستأخذ بثأري. فهذا يا حبيبي لا يعنيك أنت، لأنني لست بأخيك وحدك، بل أنا قد أصبحت أخ الأمّة وابن الأمة جمعاء"، وهذا ما كان.

بعد تسعة عقود على إعدام أبطال ثورة البراق، في ذلك الحزيران الأحمر الذي لا ينساه أهل فلسطين، يمرَ هذا العام حزيران مختلف، تتجدد فيه الهبّات ويتسع مداها، ينتفض فيه أولاد القدس، من عمّرت في وجدانهم أرواح الشهداء، ليعقلوا لسان العالم بصمود عجيبٍ في عاديّته، والمتّسق تمامًا مع سجاياهم كبارًا وصغارًا، وهم أمام أعتى المحتلّين وأوقح المستوطنين، فيهزّون مسلمات المستحيل الذي بدا لوهلة أبديًا، وينقلونه إلى خانة الممكن والقريب، حيث فلسطين، الأقرب إلى التحرّر والعدالة.  

 

اقرأ/ي أيضًا: 

اليوم الصريح الذي لم يسمعه أحد

النكسة.. هزيمتنا الممتدة فينا