06-أغسطس-2019

كيفورك مراد/ سوريا

وضع عالم الاجتماع العراقي علي الوردي عنوانًا مثيرًا لأحد كتبه هو "أسطورة الأدب الرفيع"، وقد أراد عبر ذلك تسفيه مفهوم "الأدب الرفيع" والسخرية منه وتفتيته لصالح أدب الناس، والأدب القريب من الناس في حركتهم اليومية والوجودية بآن معًا. قصد الوردي بـ"الأدب الرفيع" ذلك الأدب المتعالي الذي يكتب بمجازات لغوية موغلة في الغموض من جانب، وبالتجريد الفكري واللغوي من جانب آخر، والذي لذلك يجري في مساحات لا يتواجد فيها أناس بل ميتافيزيقيا.

أراد علي الوردي تسفيه مفهوم "الأدب الرفيع" والسخرية منه وتفتيته لصالح أدب الناس

وضع الوردي بذلك الأسس الأولى لما بات معروفًا بالـ"النقد الثقافي"، وفق تفصيلات غاية في الأهمية قدمها المفكر عبدلله الغذامي، خاصة في كتابه: "النقد الثقافي – قراءة في الأنساق الثقافية العربية".

اقرأ/ي أيضًا: غرامشي والثقافة الشعبية.. الدرس الغائب عن "المثقف" العربي

وفق على الوردي ووفق الغذامي، سوف نجد حدّين ثقافيين مختلَقين ومصنوعين هما: الثقافة الشعبية وثقافة "النخبة". وقد قامت الأخيرة بوضع جدار فاصل كتيم بينهما وأطلقت على ثقافة الناس تعبير ثقافة "شعبية" بقصد التحقير لا التوصيف! وقد نتج عن سنوات طويلة من تحقير وتسفيه وتغييب ثقافة الناس أن درج الكثير من المثقفين وتيارات ثقافية كاملة ونظريات على النظر إلى الناس على أنهم بلا ثقافة وبلا فن... وكان دليلهم إلى ذلك عدم استناد روايات الناس وقصصهم وآرائهم وتوجهاتهم الفنية إلى الكتب. فقد بقي الكتاب، وفق ثقافة "النخب"، هو الدليل إلى الثقافة، وهو الدليل عليها!

وبنظرة، ولو سريعة، إلى "الثقافتين" نجد أنهما أصل وفرع، بذور وجذور، أساس وبناء... والفرق يكمن بين ما هو مكتوب وبين ما هو شفوي... فكما أن النخب، على سبيل المثال، تهتم بالموسيقى والغناء وتستمع إلى خوليو وبيتهوفن، يستمع الناس إلى أبو الزلف والعتابا والربابة، وكما أن لدى النخب آراء في الموسيقى والموسيقيين والغناء والمغنين، كذلك يختلف الناس في آرائهم حول العتابا الشرقية والعتابا الساحلية وحول عزف فلان أو فلان على الربابة مثلًا، وسواها من الآلات الموسيقية التي ابتكروها عبر تاريخهم. ومثلما يروي مثقفو "النخبة" قصصًا وروايات قرؤوها في الكتب، يروي الناس قصصًا وروايات حول أبائهم وأجدادهم وجيرانهم وأبي زيد الهلالي والزير سالم، فيما تروي النخب هوميروس وروستام وفرجيل، وفيما تروي "النخب" انتقام زيوس يروي الناس انتقام فرد من عائلة لأسباب يرونها ذات عبرة ومغزى.

ومثلما يتدخل الكتّاب في حكاياتهم لجعلها ملائمة، يتدخل الناس أيضًا في حكاياتهم لجعلها ملائمة، فنسمع عدة روايات لحدث واحد ويكون ذلك بهدف وضع بنية للحكاية تجعلها موائمة للروي ومتناسبة مع المغزى... بالإضافة إلى أن نظام الرواية الشفوية يجعل من الرواية قابلة للتعديل على الدوام كي لا يتم نسيانها على اعتبار أن لا حافظ لها سوى ذاكرة الناس، على عكس الرواية المكتوبة التي تجد في الكتابة حافظًا مضمونًا. بالإضافة إلى ذلك فالناس لديهم نجوم في الغناء والتمثيل والرقص إلخ... يتابعون أخبارهم وتفاصيل عن حياتهم الفنية والشخصية، وهذا يثير حنق وسخط بعض المثقفين إذ يرون ذلك انحطاطًا وقلة وعي وغير ذلك، فيما في الحقيقة فإن لدى المثقفين نجومهم من الكتّاب والمغنين والراقصين إلخ... ويتابعون أخبارهم الفنية والشخصية أيضًا.

ثمة الكثير مما يمكن سرده عن ثقافة الناس وثقافة "النخب" وعن مقدار التماثل والتقاطعات والمشتركات... الأمر الذي يؤدي إلى القول -بلا تردد- إن كل كلام عن عدم وجود ثقافة لدى الناس وعدم وجود فن لديهم هو كلام زائف وليس فقط متعاليًا. نجد أن ثقافة الناس هي الأرضية التي انطلقت منها ثقافة "النخب"، وهي الأساس الذي بنت عليه "النخب" ثقافتها، ويمكن الربط بين ظهور الرواية كمثال، وبين الأساطير والحكايات القديمة التي ابتدعنها الشعوب وحفظتها في ذاكرتها جيلًا إثر جيل، وكذلك بين الغناء وقد صار فنًا بالمعنى الحديث لكلمة فن، وبينه قبل أن يكون فنًا بالمعنى الحديث... ثقافة الناس هي البذرة التي خلفت ثقافة "النخبة".

ولأن الثقافة الشعبية هي روح الأمم، وذاكرتها وتراثها، وبمعنى ما هي هويتها أيضًا، كان على النخب أن تقر أولًا بالبناء عليها، وأن تواصل البناء عليها من ثمّ، وأن تنظر للثقافة برمتها على أنها ثقافة أمة، دون جعلها ثقافتين متضادتين: شعبية ونخبوية، ودون أن تنظر إليها نظرة تسفيه واحتفار، وكذلك دون أن تقيم جدران عازلة بينهما كما فعلت على مدار التاريخ (الحديث بصفة خاصة).

الثقافة التي تحفظ وجود أمة، أو تؤسس لوجودها هي تلك الثقافة المعجونة بروح الناس وذاكرتهم وتاريخهم وأساطيرهم

اكتشاف الثقافة الشعبية جاء متأخرًا بعض الشيء على المستوى العربي ومستوى المنطقة. من أمثلتنا على ذلك يأتي في المقام الأول علي الوردي، وبوعلي ياسين في كتاباته عن النكتة، والغذامي في الكثير من كتاباته، وهنالك الكثيرون بطبيعة الحال.

اقرأ/ي أيضًا: الثقافة المعقّمة والتطهّريّة

الثقافة التي تحفظ وجود أمة، أو تؤسس لوجودها هي تلك الثقافة المعجونة بروح الناس وذاكرتهم وتاريخهم وأساطيرهم وخرافاتهم ومآثرهم وأمثلتهم الشعبية التي كانت بمثابة الموجه للسلوك والضابط له، وكذلك بمثابة حكم القيمة عليه... وعندما نقول ثقافة عربية مثلًا، أو ثقافة كردية، أو ألمانية أو أمازيغية أو أمريكية إلى آخره... فإننا يجب أن نشمل ما أنتجه الناس من كتب وفن، وكذلك ما أنتجته هذه الشعوب من حكايات وأساطير وغناء ورقص وموسيقى وطعام... في صناعتها للحياة وعبورها نحو الحياة.

 

اقرأ/ي أيضًا:

طيب تيزيني.. ناقد الثقافة والاستبداد

الثقافة.. السياسة.. الثورة