27-مارس-2019

الحكواتية سلوى القرا في مخيم البص، في مدينة صور

تحكم الكلمة بمجد ولا تموت. تشيخ أحيانًا لكنها تعاود الظهور في أماكن مختلفة وبلهجات متعددة وبسحر جديد، كذلك تفعل الحدوتة وتسافر عبر الزمن وعبر التاريخ والجغرافيا في أصقاع الأرض، تترك جزءًا من حمولتها وتحمل حمولة جديدة، فالحكاية يمكن أن نجدها في الشرق والغرب، عند العرب والمسلمين والمسيحيين وغيرهم من شعوب الأرض قديمًا وحديثًا. تطير الحدوتة وتحط رحالها عند شعوب مختلفة بنسخ مختلفة لكن بجذور واحدة، فتتبدل أسماء الشخصيات والأماكن حينًا وتتعدل بعض الأحداث أحيانًا لكن نواة الحدوتة تعيش أبد الدهر.

يصادف تاريخ 20 آذار/مارس من كل سنة اليوم العالمي لفن الحكواتي، ويصادف الـ27 من الشهر ذاته اليوم العالمي للمسرح

يقال في الإنجيل "في البدء كانت الكلمة"، ويحفل التوراة وغيره من الكتب الدينية بالحكايات وتنتشر الأساطير والخرافات في العالم أجمع، فمن الحكايات الأفريقية الشعبية إلى الحكايات في اليمن ومصر وبلاد الشام وحكايات الإغريق، وصولًا إلى حكايات الهند والصين وأقصى الشرق. كل شعب من شعوب الأرض في الماضي والحاضر والمستقبل كان وسيكون عنده نسج خيالي خاص من الحواديت.

اقرأ/ي أيضًا: حوار| زياد عيتاني: الوطن هو الناس الذين يشبهوننا

أصل الحكي سياسة

يصادف تاريخ 20 آذار/مارس من كل سنة اليوم العالمي لفن الحكواتي، ويصادف الـ27 من الشهر ذاته اليوم العالمي للمسرح. الحكواتي يستدل عليه من اسمه. إنه الشخص الذي يحكي في مكان محدد وزمان محدد ولجمهور محدد، أي أن الحكي مهنته، ولطالما كانت مهنة مستغلة من السلاطين لإعلاء شأنهم ونجد في شعر المدح والهجاء أكبر دلالة فيما خص جوهرية الحكي وتمحور الثواب والعقاب الذي كان يتعرض له الشعراء حول طبيعة حكيهم.

يقول سقراط "تكلم كي أراك" ولم يترك كتبًا، لكنه ترك تعاليمه الشفهية التي كان يتلوها على مسمع تلامذته. وكان أن حكم عليه بالموت واستقبل الموت بعنفوان فيلسوف لأنه كان يعي أن خطاباته ستعيش بعده. وعبر التاريخ محطات كثيرة كانت فيها تهمة الحكي سيفًا مسلطًا على الرقاب ويتضح ذلك في قضية غاليليو غاليلي وجيوردانو برونو وفي اضطهاد المسرحيين، باعتبارهم ناشرين للرذيلة من قبل الكنيسة في أوروبا قديمًا.

في الفن يجب دائمًا أن يكون عند الفنان شيء ليقوله للعالم. كذلك الأمر عند الحكواتي الذي يحكي حكايته وداخل الحكاية يوجد نواة للحدوتة وتحمل تلك الحدوتة رسائل ومعاني عدة. والحكي في حد ذاته سياسي فالتعبير عن الرأي وإبداء الرأي والانتقاد والثورة والشعارات أو التملق والوصولية أغلبها تتطلب من أن يكون الحكي قناة عبور لها ووسيلة تواصل للأفكار التي تنتقل شفهيًا بدورها عبر الألسن من شخص إلى شخص أخر ومن جماعة إلى أخرى.

الكاتب يلعب دور الحكواتي في مستشفى الجامعة الأمريكية ببيروت (ألترا صوت)

كيف إن كانت الحكاية أو الحدوتة تحمل معاني سياسية أو أخلاقية ترفضها الأنظمة الشمولية، ويمكن الاستدلال بحكايا كليلة ودمنة التي كتبت على لسان الحيوانات تجنبًا للعقاب من قبل سلطة الخليفة، وهدفت للإضاءة على الظلم الذي يقاسيه الشعب وعاشت مئات السنين.

الحكواتي حين يسرد حكايته إنما يفلسف العالم في حدوتته، حتى وإن كانت حدوتته موجهة للأطفال فإنها تحمل مغزى تربويًا أو أخلاقيًا أو اجتماعيًا أو فلسفيًا أو نفسيًا، يريد أن يقوله الحكواتي فيقولبه على لسانه بطريقته الخاصة، وربما يعيد تشكيل سياق الحكاية بشكل مغاير مما يفعل حكواتي آخر. فكل حكواتي يرى العالم بلسانه المميز والخاص.

قد يستخف البعض ويتساءل: "إنها مجرد حكاية لن تقدم ولن تؤخر"، وهذا القول مرفوض إذ إن الأدب والفن والنحت والرسم والفنون التشكيلية والعمارة والمسرح والموسيقى كلها تنطق بأشياء حول العالم، فصاغت العالم من جديد، وفي كل مرة كانت تقول شيئًا جديدًا كان يولد العالم من جديد، وكذلك شأن الفن شأن العلم توأمان لا ينفصل تأثيرهما عن بعضهما البعض. ومن المقولات المعبرة "اسمع ثم احكم".

من هنا فإن الحدوتة هي بمثابة ممارسة للوجود، ولدى الحكواتي قناعة أن سرده لقصته سوف يؤثر في البشرية وربما يغير مسار التاريخ الاجتماعي، ويرى الحكواتي أن لحدوتته مفعولًا أعتى من مفاعيل القنبلة النووية في هيروشيما. ونجد أنه في أدب الأطفال وتحديدًا في سرد الحكواتي لحكايا الأطفال رؤية خاصة به تشكل المنظور الإيديولوجي لنشأة الأطفال وتربيتهم كما يراه منسجمًا مع رؤيته للعالم. على سبيل المثال، إن سرد حكاية تتعلق بالقضاء والقدر لها انعكاسات مختلفة عن سرد حكاية تحفز على حرية الاختيار بإرادة حرة وذاتية.

الحكي ومفاعيله النفسية

يقول فرويد: "للكلمات قوة سحرية، بإمكان الكلمة أن تحمل أعظم الفرح أو أعظم الخيبات". فالكلمة تنفذ إلى أعمق أعماق النفس البشرية. يكفي أن نستدل كم يعلق البشر أهمية على البوح بكلمة "أحبك"، أو كلام الطفل الصغير حين ينطق بأول أحرف أو أسماء والديه. والإنسان المحزون يشكي همه فيحكي أزماته لصديق أو حبيب أو قريب وحين ينتهي يقول "الآن ارتحت"، أو "فضفضت يلي بقلبي"، لأن الإنسان بحاجة إلى التعبير عن نفسه بالحكي، وبحاجة لمن يستمع إلى حكيه، تمامًا كما يلعب الاعتراف في الكنيسة دوره بتطهير المؤمنين من خطاياهم.

منذ عام 2014، بدأ نشاط في لبنان لإعادة إحياء مهنة الحكواتي وأخذت المبادرات جمعيات عديدة منها مؤسسة الجنى ومؤسسة التعاون وجمعية السبيل، وتم تدريب مجموعة من الحكائين من جنسيات لبنانية وسورية وفلسطينية وتوالت المهرجانات والحفلات في المقاهي الثقافية والمسارح والمدراس والمكتبات العامة ومخيمات اللاجئين. تولى تدريب الفرق نخبة من الحكائين المتمرسين مثل جهاد درويش وشيرين الأنصاري وغيرهم، وانتعشت الفكرة وتقبلها الجمهور.

يقول فرويد: "للكلمات قوة سحرية، بإمكان الكلمة أن تحمل أعظم الفرح أو أعظم الخيبات"

انتقلت تجربتي إلى الحكي في المستشفيات، تحديدًا في مستشفى الجامعة الأمريكية في بيروت، في قسم مرضى السرطان للكبار وبدعم من جمعية TIES، ويشمل المشروع الحكي داخل غرف المرضى. يدخل الحكواتي بصحبة فريق من الجمعية ويسرد حكايته على مسمع المريض وأهله ويتنقل من غرفة إلى أخرى ويفسح المجال للمريض بسرد حكايته إن أراد ذلك.

اقرأ/ي أيضًا: كاريكاتير من زمن الاستعمار

بعض المرضى يبكون وآخرون يبتسمون ويضحكون والبعض الآخر يشارك في السرد أو يأخذ البادرة بالحكي عن حدوتة حياته. تلعب الحكاية أدوارًا مهمة ومفيدة على صعيد التعبير الانفعالي للمرضى وتترك بصمتها في وجدان الجمهور. ينهي الحكواتي حكايته ويرحل لكن حدوتته تحفر عميقًا داخل كل إنسان وتبني عشًا لها في خياله ووجدانه.

 

اقرأ/ي أيضًا:

صدّيق ماحي.. الحكاية كأداة للمقاومة

كان يا ما كان.. حكايات شعبية ضد القهر والاستبداد