23-أغسطس-2017

حالة من الضياع تسيطر على جزء من شباب المغرب (سبنسر بلات/Getty)

"إنهم يريدون خلق أجيال جديدة من الضباع"، هكذا صَرَخَ السوسيولوجي الراحل، محمد جسوس، في وجه السلطة السياسية إبان عهد الحسن الثاني، وهو يحذر في كلمة له من تداعيات تهميش الشباب، قائلًا "إذا كان شباب هذا البلد مهمشين، مقموعين، مكبوحين، مكبوتين، مطاردين في مختلف مرافق الحياة، فيمكننا من الآن أن نصلي صلاة الجنازة على هذه البلاد وعلى مستقبلها".

توالت حوادث مروعة خلال الأسبوع الأخير في المغرب، كان أبطالها مراهقون اختصوا بين الاغتصاب والإرهاب ما اعتبره الشارع المغربي كارثة

كان ذلك قبل عقود، ويبدو أن ما كان يخشاه حينئذ عالم الاجتماع المغربي محمد جسوس قد تحقق اليوم بعد موته، كما أصبح يعتقد الكثير من المغاربة، بعدما توالت سلسلة من الحوادث المروعة خلال الأسبوع الأخير فقط، كان أبطالها مراهقون وشباب في مقتبل العمر، بدءًا من واقعة اغتصاب 17 طفل لأنثى حمار، مرورًا باقتحام عصابة من الشباب للبيوت في فاس بقصد اغتصاب بناتهم، إلى العمليتين الإرهابيتين في برشونة وفلندا، وليس آخرًا اغتصاب مجموعة مراهقين لفتاة من ذوي الاحتياجات الخاصة في "الأوتوبيس" نهارًا جهارًا.

كلها أحداث باتت تثير الفزع في نفوس المواطنين وتساؤل المهتمين، من الحال الذي وصل إليها جيل من أطفال وشباب المغرب، وقع ضحية السياسات الحكومية المتعاقبة من ساعة الاستقلال إلى اليوم، بحسب البعض، جعلته تائهًا مشتتًا بدون تكوين أو مستقبل واضح، ليسقط قسم منهم في مستنقع الجريمة والمخدرات والإرهاب، فيما يقرر البعض منهم اجتياز البحر على مراكب الموت هاربًا نحو أوروبا.

وضع لا يحسد عليه، لخصته مذكرة إخبارية للمندوبية السامية للتخطيط بداية العام الجاري، عندما أفادت بأن هناك أزيد من مليون ونصف بالمغرب ممن تتراوح أعمارهم بين 15 و24 سنة، لا يعملون ولا يدرسون ولا يتابعون أيّ تكوين.

اقرأ أيضًا: من التحرش بالنساء إلى اغتصاب الحيوانات.. كيف استفحل الكبت الجنسي بشباب المغرب؟

إهمال المدرسة العمومية أنتج الجهل

منذ الاستقلال كانت السلطة السياسية في المغرب تنظر إلى المدرسة كأداة قوية للضبط الاجتماعي وتكريس التفاوتات الطبقية، وليس مثلما هو مفترض في التمدرس كحق أساسي يحصل عليه كل فرد بالجودة المطلوبة وفي ظروف متساوية تضمن تكافؤ الفرص، بحيث يتمكن الأفراد من تنمية قدراتهم ومواهبهم وبلوغ حدود إمكانياتهم العقلية والإبداعية، وفق الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، خاصة وأن الحركة التلاميذية كانت رقمًا صعبًا في اللعبة السياسية بنشاطاتها الاحتجاجية آنذاك، في ذروة صراع القصر مع بعض الأحزاب السياسية الوطنية حول السلطة.

أزيد من مليون ونصف بالمغرب ممن تتراوح أعمارهم بين 15 و24 سنة، حسب دراسة رسمية، لا يعملون ولا يتابعون أي تكوين

وعلى هذا الأساس تمت هيكلة المدرسة العمومية، كمجال يعج بالفوضى والاكتظاظ وتفتقر مناهجه التعليمية إلى جودة المحتوى، يعيد "إنتاج الأمية والجهل في أعلى مراتبهما" كما قال الأكاديمي يحيى اليحيواي، بدل أن يكون فضاء حرًا يتعلم فيه الأفراد حرية الإبداع والنقد ويغرس في نفوسهم فضول البحث والقراءة، حتى صار النظام التعليمي يحتل المراتب الأخيرة وفقًا لكل التصنيفات الدولية المعنية بالتعليم.

في حين حرصت النخب السياسية والمالية للبلد، من وزراء وبرلمانيين وأثرياء، على إدخال أبنائهم أفضل مؤسسات التعليم الخاصة في البلاد وخارجها بفرنسا، ليوفروا لفلذات أكبادهم تكوينًا جيدًا، يضمن لهم حياة عملية مريحة، تجعلهم يحافظون على الوضع النخبوي لأسرهم باستمرار بطريقة متوارثة، بينما تركوا لعامة المواطنين مدرسة عمومية لا تقدم لهم الحد الأدنى من التكوين المقبول.

مما حول النظام التعليمي في المغرب إلى أشبه بطاحونة ضخمة تنتج أفواجًا من المتمدرسين، الفاقدين للتكوين والبوصلة الأخلاقية، ليتلقفهم الشارع ويصبحوا ضحية الآفات المجتمعية المختلفة، فيتحولون بدورهم إلى مخربين للمجتمع.

وإذا كان الهاجس السياسي الأمني وراء إهمال الطبقات الحاكمة للتعليم العمومي، فإن هذه السياسة خلقت جيلًا من "الضبوعة" بتعبير محمد جسوس، ليس له الحد الأدنى من الوعي، بات يهدد استقرار المجتمع وغدًا سيكون عبئًا على الدولة نفسها.

أدى إهمال الطبقات الحاكمة للتعليم العمومي إلى تكوين جيل من الضياع ليس له الحد الأدنى من الوعي وبات يهدد استقرار المجتمع

تجذر الفساد أنجب الفقر

لطالما ضمن المغرب مقعدًا له في فئة "مستوى فساد عال جدًا" لدى تقارير منظمة الشفافية الدولية المعنية بالفساد، وقد احتل المرتبة 90 العام الماضي بين بلدان العالم، هذا البعبع الذي بات يهدم أي محاولة إصلاح في البلاد.

وعلى غرار المدرسة العمومية الفاشلة، تأسست البنية التحتية للفساد في فترة ما بعد الاستقلال، كشفها تقرير الخمسينية الرسمي، عندما استأثرت النخب السياسية بموارد البلاد واستغلت نفوذ السلطة في مراكمة الثروات والاستفادة من الامتيازات، منغمسة في متاهات الفساد والتبذير والتسيير المشوب بالخلل، حتى صار الفساد جزء لا يتجزأ من بنية الدولة، من شدة تغلغله في النسق السياسي، كما سبق أن أشار إلى ذلك تقرير تراسبرانسي.

ولإدراك حجم الفساد، يكفي معرفة أن الأموال المهربة في المغرب، خلال الفترة ما بين 2004 و2013 فقط، تناهز 41 مليار دولار أمريكي بمعدل 4,102 مليار دولار سنويًا، حسب دراسة أعدتها منظمة النزاهة المالية العالمية، فضلًا عن أن حوالي %60 من الشركات الخاصة لا تدفع ما عليها من الضرائب، مكبدة ميزانية الدولة خسارة تعادل %8 من الدخل الإجمالي الخام في المغرب، وفق ما صرّح به سابقًا المدير العام السالف لمديرية الضرائب بوزارة المالية والاقتصاد، نور الدين بن سودة.

كما يوجد، باعتراف الوزير المكلّف بالشؤون العامّة والحكامة محمد نجيب بوليف سنة 2012، أن هناك ما بين 70 و90 ألف "موظفٍ شبح"، من ضمن 800 ألف موظف يشتغلون في القطاع العام، تكلف الدولة أربعة مليارات ونصف مليار سنتيم شهريًا، ناهيك عن الرواتب السمينة والامتيازات المرفهة للوزراء والبرلمانيين والموظفون السامون، التي تستنزف ميزانية الدولة، بجانب لوبيات النهب المتفرعة في كافة القطاعات العامة والخاصة.

أدى كل هذا الفساد وسوء التدبير، كما تؤكد ذلك أرقام الفقر، إلى إغراق قسم واسع من الشعب في أتون الفقر والبطالة وشظف العيش مقابل اغتناء نخبة صغيرة بشكل فاحش على حساب المجتمع، وتسبب في محدودية ميزانية الدولة، وبالتالي تلقي المواطنين خدمات عمومية رديئة على مستوى الصحة والتعليم والشغل. وفي وسط أحزمة الفقر والبؤس التي صنعها الفساد، تنشأ حشود المجرمين والمختلين المعادين للمجتمع المهمش لهم.

أدى الفساد المستشري في المغرب إلى إغراق قسم واسع من الشعب في أتون الفقر والبطالة مقابل اغتناء نخبة صغيرة بشكل فاحش

اقرأ أيضًا: "تيلي ماروك"..هل يتحرر التلفاز المغربي من احتكار السلطة؟

خنق الإعلام أدى إلى تيهان قسم من المجتمع

يُشبّه الإعلام عادة بالسلطة الرابعة التي تراقب السلطات الثلاث (التشريعية والتنفيذية والقضائية)، لكن يرى آخرون أن الدور الأصيل للإعلام والصحافة هو تنوير المجتمع، وتنفيس مكبوتاته بأبعادها المختلفة. وليس من الغريب أن جيفرسون، الرئيس السابق للولايات المتحدة الأمريكية ، قال إنه لو خيـّر بين العيش في بلد بدون صحافة أو بلد فيه صحافة ولا توجد فيه حكومة، لاختار أن يعيش في بلد فيه صحافة حرة بدون حكومة.

وتزداد أهمية الصحافة في سياق العولمة اليوم، حيث صار تأثير الإعلام يسبق المدرسة نفسها، إذ يقضي الناس أوقاتًا مديدة كل يوم على التلفاز والأنترنت، ولم يعد بإمكان حجز الأصوات مع ثورة الإعلام الرقمي وصحافة المواطنة.

لكن المغرب لا يبدو أنه يولي اهتمامًا للإعلام بوصفه ركيزة مستقلة تساهم بدورها في تنمية المجتمع، بل باتت السلطة، حسب مهتمين بالشأن الإعلامي، تتعامل معه بحساسية مفرطة، من خلال متابعة الصحافيين وسجنهم وتشديد قوانين الصحافة وعدم تحرير الإعلام التلفزي، مما بوأ المغرب مراكز متأخرة في التصنيفات المعنية، حيث احتل الرتبة 133 من أصل 180 في الترتيب السنوي لهذا العام في مؤشر حرية الصحافة من قبل منظمة "مراسلون بلا حدود".

وذلك لأن السلطات السياسية في البلاد تنظر للإعلام عمومًا، كمصدر محتمل لزعزعة الاستقرار، وتَعتبر التلفزة كأداة خطيرة للتحكم في المجتمع المغربي، لا ينبغي أن تسقط في يد غير الجهات الرسمية، لقطع الطريق تماما أمام أي تهديد. ومن ثمة مثلما كتب الصحافي عبد الكريم ساورة، "دخلت السلطة في صراع شرس مع الصحافة على مدار عقود، أدى إلى إضعاف دور الصحافة بالمغرب".

بيد أن هذه المقاربة المغموسة بالهاجس الأمني، كان لها أثر مدمر على المجتمع، إذ حرمته من متابعة إعلام مفتوح ومتعدد، ينوره بما يحدث في البيئة المحيطة به، ويطور هويته الثقافية والفكرية، وينفس عن كبته المتعدد الأبعاد، وبدل ذلك بقي حبيسًا إما لإعلام تقليدي غارق في الرتابة والرقابة أو لصحافة مهووسة بالإثارة والفضائح.

وهو ما خلق جيلًا من الشباب مغتربًا عن وطنه، يفتقد للانتماء الهوياتي والبوصلة القيمية، ولا يملك الحد الأدنى من الوعي بذاته ومحيطه، لتصبح غرائزه البدائية المحرك الوحيد لممارساته الحياتية اليومية، وبالتالي خلق مزيد من الأعباء الأمنية على المجتمع والدولة.

 

اقرأ أيضًا:

الابتزاز الجنسي الرقمي..عندما تتحول لحظة حب إلى كابوس حقيقي

هل ستصبح المغرب من دول "البترودولار" قريبًا؟