12-يوليو-2021

رواية "في الطريق إلى برلين" (ألترا صوت)

ألترا صوت – فريق التحرير

صدرت حديثًا عن "منشورات المتوسط"، رواية جديدة للكاتب والمترجم السوري المقيم في إيطاليا يوسف وقاص بعنوان "في الطريق إلى برلين"، وهي ثالث أعماله الروائية بعد "الرجل الناطق" (للفتيان والكبار، 2006)، و"أوبرا 99: باص الأحلام" (2016).

"في الطريق إلى برلين" رواية عابرة للأنواع، أراد مؤلفها أن تكون انعكاسًا للتشتت والضياع الذي ألمَّ بالشعب السوري

تدور أحداث الرواية التي جاءت في 352 صفحة من القطع الوسط، حول قافلة لاجئين تكابد من أجل الوصول إلى العاصمة الألمانية برلين، هربًا من أهوال الحرب التي دفعت أفرادها إلى خوض هذه المغامرة، التي اتسمت بأجواءٍ غرائبية تتصاعد حدتها كلما تقدمت القافلة باتجاه هدفها المنشود.  

اقرأ/ي أيضًا: "ماكيت القاهرة".. تفكيك ماضي المدينة واستشراف مستقبلها

ولا يختلف المناخ العام للعمل عن الواقع الذي فاق، بحسب تعبير مؤلفه، أكثر الخيالات جموحًا. وهو مناخٌ يرى يوسف وقاص في حديثه لـ "ألترا صوت"، أنه: "متعدد الأوجه، ويستمد صيرورته سواءً من الأحداث الخيالية التي تواجه المجموعة أثناء مسيرتها الطويلة للوصول إلى برلين، أو من تقلبات شخوصها وإحساسهم بالضياع بعد أن فقدوا كل شيء. أجواءٌ كئيبة أحيانًا، تواكبها سخرية سوداء ورحلات تصل حدود السماء السابعة".

أما الثيمة الرئيسية لـ "في الطريق إلى برلين"، فهي الحرب التي أودت بحياة آلاف السوريين، وشردت نصف السكان تقريبًا، ما بين لاجئين في الداخل وفي بقية أصقاع الأرض. وفي هذا الصدد، يقول ضيفنا: "في هذه الرواية المؤلفة من كوابيس حقيقية عن الحرب، يقود ميلاد بن كنعان، وهو شخصية مصابة بازدواجية حادة، مجموعة من لاجئي الحرب نحو ألمانيا. السيناريو المريع الذي يتأرجح بين الحاضر والماضي، يتغيَّر من فصلٍ لآخر، في بنية دائرية ومجزَّئة، مُحرِّفًا باستمرار دلالات وأداء الشخصيات، ومُسندًا في كل فصل أدوارًا جديدة لهم تعكس حقبة تاريخية أو حدث راهن".

وحول غاية الرواية وهدفها، يقول وقَّاص: "إحدى مهام الرواية هي نقل الذاكرة من حيِّزٍ إلى آخر، أو بالأحرى إلى أرضيةٍ ثابتة، في إعادة لكتابة الواقع بطريقة يعيشها القارئ، وربما يستعيد عبرها الأحداث التي عاشها بنفسه".

ويلفت في هذا السياق، إلى أن فكرة العمل بدأت تنمو في ذهنه بعد: "حصار حلب والمعاناة الكبيرة التي جابهها السكان جراء القصف العشوائي، وفرض النزوح القسري بكل الوسائل الممكنة، ولم تكتمل سوى بعد وصولي إلى إيطاليا في بداية عام 2016".

وإلى جانب الحصار وما ترتب عليه، ثمة حوادث أخرى دفعت مَنْ ترجم "لكنك ستفعل"، إلى التفكير في كتابة "في الطريق إلى برلين"، منها: "القمع الوحشي للمتظاهرين في جامعة حلب، والمشاهد المروعة لجثث الأطفال والنساء بعد سقوط البراميل المتفجرة، أو صواريخ سكود بعيدة المدى. وبعيدًا عن هذه المشاهد، كان أكثر ما يؤلمني كيف يمكن لدولة أن تفعل ذلك بحق أبنائها، مع أنني كنت أعي تمامًا أن الأمر لم يعد يتعلق بدولة أو حكومة أو نظام، وإنما منظمة أمنية وعسكرية اتخذت من الإجرام منهجًا لها لدوام سيطرتها".

وفي ما إذا كانت الرواية تندرج ضمن ما بات يعرف بـ "أدب المهجر" أم لا، خصوصًا وأنها صدرت لأول مرة باللغة الإيطالية عام 2017 ضمن سلسلة "Kumacreola" المعنية بأدب المهاجرين في إيطاليا، يقول: "لا أعرف ما إذا كان يمكن إدراجها ضمن "أدب المهجر"، أو بالأحرى الأدب الذي أنتجه السوريون في بلاد الغربة. الآن، بعد أن تم ترجمتها إلى اللغة العربية، يمكننا اعتبارها منتمية إلى كلا الجهتين، أدب المهجر والأدب الإيطالي، خاصةً أنني كنت من أوائل الكتَّاب المهاجرين الذين بدأوا الكتابة باللغة الإيطالية، أي قبل سنوات من اندلاع الحرب في سوريا".

تدور أحداث الرواية حول قافلة لاجئين تكابد من أجل الوصول إلى العاصمة الألمانية برلين هربًا من أهوال الحرب

ويشير صاحب "أوبرا 99: باص الأحلام"، إلى أن روايته موجهة: "إلى جميع القراء بلا تمييز، حتى أولئك الذين سيجدون بعض الصعوبات في الإلمام بكنه هذه الكوابيس ومجازاتها، إلا أنني واثق من ذكاء القارئ وحنكته، وأنه سيكتشف من تلقاء نفسه الأسباب التي دفعت ميلاد بن كنعان لسرد فواجع الحرب بهذه الطريقة السريالية وتهويماته التي تصل أحيانًا إلى مستويات لا يتصورها العقل. وكما يقال: العبرة في الخواتيم".

اقرأ/ي أيضًا: رواية "الهاجس".. قاع المجتمع الباريسي بين الحربين

وفي ختام حديثه لـ "ألترا صوت"، يقول وقاص إن "في الطريق إلى برلين" ليست سوى: "حلقة من سلسلة طويلة من الكتابات الإبداعية التي أنجزها الأدباء والكتَّاب السوريين في الشتات خلال السنوات الأخيرة، لذلك من الأهمية قراءتها ودراستها في هذا السياق. وهي رواية عابرة للأنواع، أردت من خلالها أن تكون انعكاسًا للتشتت والضياع الذي ألمَّ بنا منذ بداية الثورة وحتى الآن".


من الرواية

بينما كنَّا نغادر القاعة، انتبهتُ أنني كنتُ الوحيد الذي يحمل جروحًا عميقة في كبريائه، ليس لأنني خسرتُ المعركة فحسب، ولكنْ، بسبب تلك النظرات المشفقة التي ما تزال تعكسها عيناي منذ اللحظة التي وقَّعتُ فيها على الاستسلام غير المشروط. لقد انتصر الحبُّ، أبلغوني بوقار يخفي وراءه سخرية لاذعة. من جهتي، بصراحة، كنتُ أفضل لو أنني ربحتُ تلك المعركة، لكنتُ أصبحتُ، على الأقلِّ، موضع ترحيب واحترام من قِبَل مدير المحطَّة.

"هاكم القصَّة كاملة، ومع ذلك، ما زلتُ لا أفهم لماذا قرَّرنَ مؤازرتكَ؟"، أعربت ناديا عن شكِّها بابتسامة خبيثة. لم تكن مقتنعة تمامًا بهذا الاختيار البريء، فلا ريب أن الساحرات الثلاث، كما كانت تدعوهنَّ، كانت لديهنَّ خطَّة ما في أذهانهنَّ!

"أنا أيضًا لم أفهم موقفهنَّ هذا"، أجبتُ بصوت خافت، وأنا أفكِّر في طرح السؤال نفسه على سليمة ونجمية وريبيكا. ولكنْ، ماذا كان ينفع الجواب؟ ربَّما كنَّ يعرفنَ أكثر منَّا؟ ومَن الذي يمكنه التحقُّق من أن جوابهنَّ سيكون ذاك الذي نطمح إليه؟

وهكذا، عندما وصلنا إلى مواقعنا، أمر عادل الجميع بتلاوة صلاة المطر والتوجُّه إلى السماء مكرِّرين سبع مرَّات: فليساعدنا الربُّ على ألَّا نرتكب المزيد من الفظائع!

"لقد اكتشفتُ، بطريقة ما، أن ثمَّة ترابطًا وثيقًا بين المطر وجرائم الحرب"، قال عادل، متفاخرًا باكتشافه، "قلَّة من الناس تميل إلى ارتكاب الجرائم عندما تمطر بغزارة، لأن الماء يغمركَ من رأسكَ لقدمَيْكَ، وبالتالي، أفكارك المبلَّلة حتَّى العَظْم لا تسمح لك القيام بأفعال تتعارض مع طبيعتكَ البشرية".

أردتُ أن أذكِّره بمجزرة الصيَّادين الأصليِّينْ في الغابة تحت وابل ذلك المطر، لكنه قرأ أفكاري، فاستبقَني قائلًا:

"خمسة منكم يجب أن يحتلُّوا تلك الزاوية هناك ... هل ترونها؟ ... وراء أكوام التراب تلك. بينما أنتما الاثنتان، ناديا وريبيكا، سوف تذهبان إلى الجانب الآخر، وتتظاهران بجمع الأغصان اليابسة. عليكما صرف انتباه الجنود المتواجدين داخل ذلك الملجأ المحصَّن ذي الفُوَّهَة المتَّجهة نحو الشمال".

"ماذا لو أطلقوا النار علينا؟"، سألت ناديا. وعلى الرغم من أنها طرحت سؤالها بحذر شديد، واحتفظت بنبرة صوت منخفضة جدًّا، إلّاَ أن عادل غضب بشدَّة، ووصل صراخه إلى عنان السماء.

"إذا لم يفعلوا ذلك هم، سأفعله أنا! هيَّااااا .... إلى الأمام! لا أريد أن أسمع شكاويكنَّ مرَّة أخرى".

ريبيكا في المقدِّمة، ثمَّ ناديا، ووراءهم الكلب بلا ظلٍّ، اصطفُّوا وأخذوا يمشون بصمت نحو الهدف الذي حدَّده عادل. تملَّكني قلق رهيب من أن أفقد ناديا نهائيًا في تلك المناسبة. بعد فترة من الوقت، بينما كنَّا نستعدُّ للهجوم، وضع عادل يده على كتفي، وقال بلهجة مريرة، وربَّما للمرَّة الأولى في حياته:

"ميلاد، إنها حرب لعينة. أنا أيضًا أُجرِّب هذا الشعور، ليس من أجل ناديا فحسب، إنما من أجل الجميع. هيَّا، وإلَّا لن نتمكَّن من إنجاز المهمَّة".

بقيت متجمِّدًا في مكاني، وأنا أفكِّر كم من الحكمة والحذر يلزمانني للمضي قُدُمًا. أطلق جُدْجُد زعقة وحيدة، وكان التأثير المشؤوم لظلٍّ لم يفطن له أحد. ثمَّ، صوت آخر، كئيب وقصير، ونبضات القلب الجهنَّمية أمست أسرع وأقوى من أيِّ وقت مضى. بدأتُ أراها الآن بوضوح تامٍّ، منهكَة من الضرب، يجرُّها جنديان، يغطِّيهما وابل من المدافع الرشَّاشة والمدافع المضادَّة للطائرات عيار 23 .

لم يكن ينبغي لهذا المشهد أن يستمرَّ لأكثر من بضع ثوان، إنما ردُّ الفعل، كان فوريًا وصاعقًا، ولم يحدث أبدًا ... أبدًا أنني رأيتُ عادل في مثل هذه الهيئة. لم يكن يطلق النهار فقط، ولكنه كان يتدحرج ويزحف ويقفز من فوق خنادق يزيد عرضها على مترَيْن. وفي اللحظة التي وصلتُ فيها إليه، حدث انفجار هائل، جعل الملجأ المحصَّن والمصفَّحتَيْن المتمرستَيْن خلف جدار سميك من أكياس الرمل وإطارات الشاحنات، يتطايرون في الهواء. بانت فكرة الهروب في ذهني، حصيفة وخفيَّة، ويبدو أنني أمضيتُ دهراً قبل أن أرى عادل يظهر بكلِّ جبروته خلفي، ممسكًا ناديا من يدها.

حدَّق بي للحظة، ثمَّ، كما لو كان يريد التخلُّص من عبء ينغِّص حياته، دفعها نحوي بنزق، وقال:

"خذها، لكنني أُحذِّركَ للمرَّة الأخيرة، لن تنالوا موافقتي أبدًا!". ثمَّ بدأ يتحدَّث على انفراد مع ريبيكا. بعدها، خلص إلى القول إن ناديا وريبيكا كانتا على وشك أن يبعنَنا للعدوِّ، وفي لحظة جنون، طلب تحقيقات مستمرَّة حول كلِّ المشتبهين، معتبرًا ذلك مسألة حياة أو موت. كان كلُّ شيء ناجمًا عن حقيقة تبدو لي الآن كذكرى مُزرية وضاربة في القِدَم، لكنني كنتُ أعي أيضًا أن بعض الذكريات لا تتوقَّف أبدًا عن مطاردتنا. أمسكتُ ناديا من يدها، وسرْنا على الطريق الذي خطَّه عادل بجرَّافة، اقترضها من الجيش الحرِّ، وقام راميش وكونغاوو بحرقها فيما بعد بجوار الحدود.

 

اقرأ/ي أيضًا:

رواية "من خشبٍ وطين".. صداقة مع غابة وقنفذ

رواية "المئذنة البيضاء".. السيرة التي يستحقها مسيح دجّال