21-مارس-2023
Scenes from a marriage مسلسل

مسلسل برغمان

منذ أن كان الكون فكرة في ذهن الخالق أفاقتْ العملية الإبداعية، مع تسويةِ بنان الإنسي الأول، وعلى وقع خطاه على وجه البسيطة رافقته بمسيرته. فما هو الإبداع؟

تُعرّف طبيبة الأعصاب الأمريكية أليس فلاهيرتي الفكرة الإبداعية على أنها كلّ فكرة جديدة مفيدة، أو مؤثرة في بيئة مجتمعية معينة. وهذا ينطبق على العلوم، تكنولوجيا المعلومات والأعمال بقدر ما ينطبق على الفنون والمجالات الأدبية. وتعتبر قشرة الفص الجبهي مهدها الدماغي، إذ يتفاقم النشاط العصبي في تلكم المنطقة عند فحص الأشخاص وهم في خضم عملية الارتجال.

الإبداع هو صفة فطرية عامة لدى البشر، ولكن السلوك غير الإبداعي مُكتَسب. وأنّ القواعد واللوائح والقوانين أثناء المسيرة التعليمية والتربوية تعمل عمل المكابح بوجه العزم الإبداعي

لكن من هم المبدعون؟ أهم ثلة من النخبة، هل الإبداع حكرٌ على ذوي المواهب؟ أهو فطري إذ يختار أصحابه فيقع عليهم كهبة قدرية برميةِ نرد؟ أم هو مكتسب فيتطلّب حرث جدب الأرواح، لغرس بذوره فيها وريها ليثمر؟

يجيبنا على هذا التساؤل عالم الأنظمة العامة، المؤلف والمستشار الدكتور جورج لاند بدراسته البحثية عام 1968، وفيها أجرى اختبارًا هو ذاتهُ الذي تجريه وكالة ناسا لاختيار العالمين والمهندسين العاملين فيها، لكن عينة اختباره كانتْ عبارة عن مجموعة من الأطفال تتراوح أعمارهم بين 3ـ5 أعوام. أعاد الاختبار على ذات المجموعة ولكن عندما بلغوا 10 من عمرهم، ثم أعاده مجددًا حينما بلغوا 15عامًا. فكانتْ النتائج صادمة، إذ سجّل الابداع بنسبة 98% عند عمر3ـ5، وانخفضتْ النسبة الى 30% عند عمر10، وانحدرتْ الى 12% عند عمر 15، ثم أجرى الاختبار على مجموعة أخرى مؤلفة من 280000 من البالغين كان الإبداع بنسبة 2% فقط!!

من هنا استنتجَ دكتور لاند أن الإبداع هو صفة فطرية عامة لدى البشر، ولكن السلوك غير الإبداعي مُكتَسب. وأنّ القواعد واللوائح والقوانين أثناء المسيرة التعليمية والتربوية تعمل عمل المكابح بوجه العزم الإبداعي.

فما هيَ عناصر الإبداع؟

باختصار تتلخص عناصر الإبداع بالتركيز على مجال أو مساحة محددة، البيئة الداعمة المحفزة، أدوات وتقنيات حصاد الأفكار، والوقت اللازم من أولى هنينات تجلي الفكرة حتى تمخض العمل بالصورة النهائية وتقديمهُ الى الجمهور.

مشاهد برغمان
من مسلسل برغمان

وعندئذ تبدأ مرحلة التقييم، فمن يا ترى لهُ كلمة الفصل، ليتولى دور المحكِّم على الأعمال الابداعية، أهو كما تقول تيريزا أمبيل من كلية هارفارد للأعمال، أن كلّ شخص غريزيًا بإمكانهُ الحكم على صبغة العمل أكان إبداعيًا من سواه. أم هو الزمن مجددًا يتسلل ليجلس على مقاعد المحكِّمين، فنراه يتعاطى بطريقتين متناقضتين تمامًا مع العمل ذاته خلال حقبتين زمنيتين مختلفتين.

وهذا بالضبط ما حصل مع الدراما التليفزيونية الأمريكية المتمثلة بالمسلسل القصير "Scenes from a marriage"، من إخراج هاغاي ليفي، وبطولة أوسكار إسحاق وجيسيكا تشاستين، الصادر تشرين الأول/أكتوبر 2021، والذي حققَ نجاحًا ساحقًا ونسب مشاهدات عالية وترشيحات لعدة جوائز منها للعام 2022 (Emmy, Golden Globes USA, Gold Derby Awards)، وحصد بالفعل خمسة جوائز، أربعة منها آلتْ لأوسكار إسحاق، أمّا الخامسة فكانتْ من نصيب جيسيكا تشاستين.

إلّا إنّ هذا العمل هو نسخة مجددة مطوّرة عن الدراما السويدية لعام 1973 للمخرج أنغمار برغمان (1918ـ2007). بطولة ليف أولمان وإيرلاند جوزيفسون. والتي تم ترشيحها لأربعة جوائز فخطفت منها ثلاثة أحداها كولدن كلوب، وكانت الجوائز من نصيب المخرج أنغمار برغمان والممثلة ليف أولمان. إلّا إنّ العمل واجه معوقات منعتهُ من الوصول الى جائزة الأوسكار.

يعد أنغمار برغمان عينة مثالية للشخصية المبدعة، إذ جسّد ظاهرة مميزة في مجال الكتابة والإخراج الفني والمسرحي منذ الربع الأخير من القرن المنصرم وحتى يومنا هذا.

نقشَ برغمان بصمتهُ على صهوة أفراس الزمان بتسعة وثمانين عامًا. عاش حياةً حافلة بالنتاجات والنجاحات، طاف في مدارات الإخراج وكتابة السيناريو، فأخرجَ 59 فيلمًا سينمائيًا، 129 مسرحية، 39 مسرحية إذاعية. انسكبتْ فلسفتهُ حبرًا في غزير مقالاته وكتبه. تناثرتْ عليه الجوائز من كل صوب كبتلات الزهور، من أهمها جائزة غوته، جائزة الدب الذهبي، وثلاث جوائز أوسكار.

برغمان شرارة القدح لانبثاق مدرسة إخراج بنمط مغاير جذريًا لما سبق. حينما أقام الجدار الرابع، اختزل المساحات، سخّر الموقع للدورانِ حول الممثلينَ لرصد كلَّ ايماءاتهم، أطلقَ العنانَ لسيل مشاعر الشخصيات كي تتدفق مباشرةً على كاميراتهُ، التي ضبط عدساتها على الزوم، آخذًا لقطات مقربة ليس على ملامح أبطالهُ فحسب، بل على خلجاتِ دواخلهم، وبذلك استحضر عيون المشاهد الى موقع تصويره، وسمح لها ان تتقمص دور الكاميرا.

مشاهد من الحياة
من مسلسل هاغاي ليفي

ركز برغمان على الصمت وأولاه أهمية كما الحوار، طرق أبواب موضوعات فلسفية وجودية، عقد نفسية منسية في الروح البشرية، شيفرات مجتمعية متوارثة بين الأجيال. بغض النظر عن الأسباب التي دفعتهُ لذلك، والتي قد تعود الى ظروف تنشئتهُ في كنف أب قس متشدد، الظروف المناخية، والطبيعة المجتمعية في السويد. ما يهم في الأمر أَنَّ برغمان شَكّلَ ظاهرة ابداعية عالمية.

أمّا تلقي الشارع لهُ فينقسم الى فئتين: الفئة الأولى وهي الأغلبية فتجد المتعة في أعمالهُ تكمن بمناجاة النفس وفرصة التدّبر والتفكّر بواقع، بعادات سلوكية، وتقاليد مجتمعية نعيشها بميكانيكية عفوية. أما الفئة الأخرى والتي برغم قلّتها إلّا أنّ الباحث الاستقصائي لن يستهين بها وترى هذه الفئة في أعمال برغمان سوداوية، كآبة، تشاؤم، وسلبية مفرطة.

والعلة هنا لا تعود الى كون غالبية الفئة الأولى هم من طبقة النخبة والذواقة للفن، أو أن غالبية الفئة الثانية هم من العامة. فكلّ من ينظر بعمق الى أعمال برغمان يجدها ليستْ موجهة على اساس طبقي أو عنصري، بل هي شمولية انسانية بحتة. ولكن السبب يكمن في الغاية من مشاهدة العمل. إن كانتْ الترفيه فلن يحصد المشاهد إلّا الضجر، أمّا إن كانتْ الاستمتاع بتجربة روحية فلسفية فلن يجد المشاهد بُدًا سوى أن ينبهر. وبصريح كلام بريغمان: "أنا لا أصنعُ فنًّا حيث يجلس الناس ويستمتعونَ به، بل أوجه لهم ضربات خفيفة، لكي أوقظهم من اللامبالاة!".

استساغة الجمهور للنسخة المحدثة للمخرج هاغاي ليفي، تطرح عدة استفهامات: تُرى هل هذا دليل على نجاح هاغاي على تقريب العمل من الجمهور؟ أم اجتهاد طاقمه وكفاءة التقنيات الموفرة له؟ أم نضج الحقبة الزمنية الذي جعلها تتسلق بإدراكها لتستوعب العمل؟ وبالتالي لو عاد برغمان وأعاد طرح مسلسل القصير "Scenes from a marriage" ستستسيغهُ الحقبة بذات الطريقة وربما أكثر حفاوة!

كيف نحدد قيمة الإبداع، هل القيمة التي نعزوها إلى الإبداع تعتمد على النجاح الناتج عنه؟ أم الإبداع من أجل الإبداع هو كلُّ ما يهمُ في الأمر بطبيعة الحال؟

بكل الأحوال يجب أن يسبق تقييم العمل الإبداعي بمرحلة محورية، ألا وهي النقد الموضوعي، والذي يتضمن الإحاطة بكل جوانب العمل، بطريقة حيادية بعيدة عن الانحياز العاطفي.

ولكن هنا يُطرح السؤال: كيف نحدد قيمة الإبداع، هل القيمة التي نعزوها إلى الإبداع تعتمد على النجاح الناتج عنه؟ أم الإبداع من أجل الإبداع هو كلُّ ما يهمُ في الأمر بطبيعة الحال؟

وفي هذا المورد تذكر الكاتبة ساشا في مقالة بعنوان "كيفَ نقيم الإبداع" المنشور على موقع جامعة اديلايد الأسترالية: "أنَّ الإبداع هو حاجة إنسانية فطرية، وليستْ مجرد هدف نسعى للوصول إليه. وإنّ كلّ ما ينتج عن الإبداع والنجاح الذي يحققه فهو شيء ثانوي، وإلا فالهيمنة تكون للرغبة بالقيام بالعمل في المقام الأول، ربما هذا ما يكفي".