05-أغسطس-2022
انفجار مرفأ بيروت

عشرات الجرائم في لبنان لم يتم الكشف عنها منذ انتهاء الحرب الأهلية في البلد بداية تسعينيات القرن الماضي وحتى اليوم. تنقسم هذه الجرائم السياسية إلى مرحلتين: المرحلة الأولى إبان تواجد القوات السورية على الأراضي اللبنانية وتدخلها في الحياة السياسية اللبنانية من ألفها إلى يائها. والمرحلة التالية التي أعقبت اغتيال رئيس الوزراء الأسبق رفيق الحريري عام 2005 وخروج القوات السورية من لبنان.

لا زالت الأحزان في ديارنا عامرة!

اتسمت المرحلة الثانية منذ 2005 وحتى 2021 بحدوث جرائم سياسية واغتيالات بالجملة، وقد أصابت هذه الاغتيالات قيادات 14 آذار وثلة من الصحفيين والمفكرين مثل جبران تويني وسمير قصير وجورج حاوي وبيار الجميل ووليد عيدو وأنطوان غانم ومحمد شطح. وحتى اغتيالات لكوادر حزبية أو ضباط في الجيش اللبناني والقوى الأمنية كاغتيال رئيس جهاز فرع المعلومات اللواء وسام الحسن والنقيب وسام عيد واللواء فرانسوا الحاج. ومنهم من نجا من محاولات الاغتيال كمروان حمادة ومي شدياق وبطرس حرب والياس المر والعقيد سمير شحادة.

اتسمت المرحلة منذ 2005 وحتى 2021 في لبنان بحدوث جرائم سياسية واغتيالات بالجملة، وقد أصابت هذه الاغتيالات قيادات 14 آذار وثلة من الصحفيين والمفكرين

وكذلك أثارت اغتيالات أخرى العديد من الإشكاليات والتكهنات، وصارت مثار جدل في الشارع اللبناني، ومنها جريمة اغتيال المصور جو بجاني في وضح النهار داخل سيارته وأمام منزله من قبل شخصين، بواسطة طلقات نارية من مسدس كاتم للصوت كما يظهر في فيديو موثق للجريمة.

في العام 2020 اغتيل أحد مدراء المصارف، أنطوان داغر، داخل موقف سيارات في منطقة الحازمية في بيروت. وفي ذات العام، وتحديد في شهر أيلول/سبتمبر، اغتيل العقيد المتقاعد منير بو رجيلي، مباشرة بعد انفجار/تفجير مرفأ بيروت الموافق في شهر آب/أغسطس ليطرح علامات استفهام حول علاقته وموقعه الوظيفي داخل المرفأ.

وقبل 4 سنوات، في عام 2017، توفى العقيد الجمركي المتقاعد جوزيف سكاف، والذي تشير الملفات إلى أنه كان على عل بنيترات الأمونيوم في مرفأ بيروت. تبع ذلك العام الماضي، في شباط/فبراير تحديدًا، اغتيال المعارض السياسي والكاتب الصحفي لقمان سليم في جنوب لبنان حيث وجد داخل سيارته مقتولًا بواسطة 6 رصاصات في رأسه وظهره.

تبخرت أموال الناس من المصارف في العام 2019. فجر مرفأ بيروت في شهر آب/أغسطس من العام 2020. انفجرت خزانات الوقود في عكار عام 2021. غرقت سفينة لمهاجرين لبنانيين في ميناء طرابلس كانت في طريقها إلى أوروبا وذلك بعد اصطدامها بزورق للجيش اللبناني. ومن ثم التهريب التهريب التهريب. الفساد الفساد الفساد. طوابير طوابير طوابير. لا داعي لشرح آليات عمل التهريب ومدى استشراء الفساد في لبنان. حدث ولا حرج.

تفجير مسجدي التقوى والسلام

وفي عام 2013 تم تفجير مسجدي التقوى والسلام في طرابلس شمال لبنان مما أدى لمقتل 50 شخصًا وجرح 800 أخرون. وفي أيلول/سبتمبر من العام 2016 صدر القرار الاتهامي المتعلق بجريمة تفجير المسجدين، وتضمن القرار توجيه الاتهام إلى العديد من الأشخاص، ومن ضمنهم اتهام المدعى عليهم محمد علي علي (النقيب في المخابرات السورية) وناصر أحمد جوبان (المسؤول في الأمن السياسي في المخابرات السورية)، وتم إصدار مذكرات تحر دائم لمعرفة كامل هوية الضباط والأمنيين في المخابرات السورية، المتورطين في عملية التفجير موضوع هذه الدعوى (والمسؤولين عن إعطاء الأمرة في هذه العملية) ليصار إلى ملاحقتهم وفقًا للأصول.

اعتراف بالجريمة

في سياق متصل، وقبل يوم من ذكرى 4 آب/أغسطس، خرج إلى الحرية من جديد، المتهم الوزير السابق ميشال سماحة، بعد 10 أعوام قضاها خلف القضبان (السنة الجرمية في لبنان هي 9 أشهر، مما يعني أن المتهم قضى فعليًا 7 سنوات ونصف السنة). قبض على سماحة بواسطة فيديوهات بالصورت والصورة، بإعطائه الأمر لمشغله للقيام بتفجيرات في طرابلس بطلب شخصي من رئيس النظام السوري بشار الأسد واللواء السوري علي مملوك. أعطى سماحة الأمر وهو يأكل فاكهة الصبار بدم بارد.

لذا لا بد من أن يكون هناك رابط مشترك بين هذه الجرائم. ولا بد من التفكر بالأدوار الإرهابية التي أداها النظام السوري في لبنان وبالتعاون مع حلفائه بحق اللبنانيين. لكن كيف كان التعاطي بين الحكومة اللبنانية مع النظام السوري حول هذه الملفات؟! لا أثر لأي خطاب رسمي يدين سوريا، مع أن هكذا ملف قضائي كان من المفترض أن يجعل من النظام السوري عدوًا للبنان واللبنانيين. على الأقل أن تطلب استفسارات من الجانب السوري وتوضيحات حول ضلوعها في قتل اللبنانيين واغتيال السياسيين والشخصيات القيادية في 14 آذار. بدلًا من ذلك، عبدت الطرقات نحو سوريا.

بدنا نقبعك من مطرحك

رفع الأمين العام لاءاته الشهيرة في وجه التحقيق. القاضي صوان مسيس. القاضي بيطار مسيس. مسؤول في حزبه قال علنًا للقاضي بيطار "بدنا نقبعك". تلا ذلك تهديد لاستمرار التحقيق عبر مئة ألف مقاتل جاء ذكرها على لسان نصر الله ووضع نفسه وحزبه كرأس حربة في مواجهة الحقيقة. رسخ نصر الله بخطاباته معادلة: إما التحقيق وإما الحرب الأهلية. وشحن مناصريه وبيئته وإعلامه نحو تحقيق هذا الهدف على غرار ما فعله في آيار/مايو من العام 2007 مع الطائفتين السنية والدرزية في بيروت، هدد نصر الله بتكرار فعلته مع المسيحيين هذه المرة.

لم يأت شعار "كلن يعني كلن" ليضم حسن نصر الله إلى اللائحة كما يدعون، بل ليستثنيه من حيث تجنب الإشارة إليه بالاسم وبالتحديد

 

لم تعد مسألة تفجير مرفأ بيروت مسألة إهمال وفساد. الطبقة السياسية فاسدة من يوم يومها. ولم يفهم التشرينيون هذه المسألة. هم يصرون على شعارات من شاكلة: كلن يعني كلن. جاء الشعار ليس ليضم نصر الله إلى اللائحة كما يدعون، بل ليستثني نصر الله من حيث تجنب الإشارة إليه بالاسم وبالتحديد.

غرام أم انتقام؟

ليس بالأمر الهين فقدان عزيز جراء انفجار مرفأ بيروت في الرابع من آب/أغسطس. أو فقدان عزيز في أي من الجرائم والكوارث التي ذكرناها. لكن الأصعب أن يشاهد أهالي الضحايا بأم أعينهم غياب العدالة. لا بل مجابهتها من قبل المتضررين منها. المستغرب أن أحدًا من الزعماء في البلد، ومنهم وزراء ونواب يسرحون ويمرحون علنًا أمام الناس. المستغرب أن عملية تصفية واحدة، بدافع فردي للانتقام، لم تحصل بحق أي أحد من هؤلاء الملطخة أيديهم بالدم. ولا حتى ضربة كف واحدة.

ليست هذه دعوة للقتل بقدر ما هي محاولة لفهم الواقع اللبناني. كان هناك "ثورة" كما يصفها أصحابها، عام 2019، لم ينوجد فيها شخص واحد ناقم وحاقد ليأخذ بالثأر والانتقام لمقتل عزيز له منذ عام 2004 وحتى اليوم! مجرد شعارات رنانة في الساحات: "سيكون خرابًا. سوف نسحلكم من بيوتكم. أنتم مجرمون"، إلى آخر المعزوفة. لا بل إن ناشطًا قام بدفش وزير الطاقة وليد فياض، فما كان من البعض من الثوار سوى أن تعاطفوا معه في الوقت الذي كان مركب الموت يغرق في طرابلس أمام السواحل اللبنانية، وبينما كانت الكهرباء معدومة في البلد.

ومع أن السلاح في لبنان منتشر بين الناس وبكثرة. يتم استخدامه أمام كل استحقاق مهما بدا سخيفًا، بدءًا من نجاح طفل في الامتحانات المدرسية، وصولًا إلى عمليات الأخذ بالثأر بين الناس. وقد سجل لبنان معدل 1.35 حالة وفاة ناتجة عن عنف فردي مسلح لكل 100 ألف شخص.

مع كل ذلك، لم تتخذ الثورة أي منحى عنفي، وظلت الجريمة في اتجاه واحد: من النظام (الذي يديره حزب الله) باتجاه الشعب! ولم يحدث أن استشاط أحد غضبًا يفوق الحد المسموح به ليصل بهذا السيناريو إلى مرحلة التراجيديا، للأسف بقيت مهزلة، أو نوعًا من التلذذ بالألم يستطيبه المتعذبون من قبل جلاديهم. وعلمًا أن لبنان ليس كوريا الشمالية. الأمن مفتوح في لبنان، والمجرمون يمارسون حياتهم بين الناس باعتيادية طبيعية

وماذا حصل بدلًا من الانتقام؟ تمت مكافئة الجلادين بمقاعد في المجلس النيابي وبوزارات وبمناصب في الدولة. حصد تحالف حزب الله وحلفائه من الممانعين وحلفاء سوريا نصف المقاعد في المجلس النيابي. وحتى في المقلب الآخر، الفريق السياسي المسمى سيادي، والذي له يد الإهمال في الفساد، حصد مقاعد نيابية. مكافآت اللبنانيين لجلاديهم لا تعد ولا تحصى. فهل استبدل الانتقام بالغرام؟ وهل الشعب اللبناني مسالم إلى هذه الدرجة من المثالية!

بلد بجذور ممانعة

شكلت هذه القضايا رأي عام مناهض لما يجري من تفلت أمني، وسط سخط شعبي من عدم الوصول إلى نتائج في التحقيقات كما في أغلب التحقيقات التي تتولاها القوى الأمنية والمخابراتية في لبنان، مما أوصل حالة الثقة بين المواطنين اللبنانيين والدولة إلى الحضيض. لكن هذا السخط لم يصل إلى درجة كبيرة من الناحيتين الكمية والنوعية إذ سرعان ما خفتت حدة السخط وصارت كمعظم القضايا التي تنزل عن الرف لتعلوها قضايا أخرى.

اغتيالات ومحاولات اغتيال سياسية وأمنية لم تستطع الأجهزة الأمنية التوصل إلى كشف الجاني في جريمة واحدة على الأقل، وتقديمها إلى الرأي العام أو سوق المتهمين والمجرمين إلى العدالة، مما يعني بطبيعة الحال أن لبنان بلد مفتوح على كافة الاحتمالات الأمنية وعلى رأسها عمليات التصفية الجسدية (الاستثناء الوحيد جريمة ميشال سماحة). لكن اللافت، أن جرائم التجسس وغيرها من الجرائم تكشف بالعشرات من قبل الأجهزة الأمنية! يعيدنا كل ذلك إلى المربع الأول، إلى الفكرة النواة الأساسية: لبنان بلد بجذور ممانعة. والعدالة لن تتحقق في ظل طالما أن الممانعة تتحكم بمفاصل السلطة في لبنان.