24-فبراير-2016

حقل (Getty)

تكرر المشهد بتكرار ركوبي القطارَ الرابط بين مدينة "بودواو" والجزائر العاصمة: طفل في حدود العاشرة من عمره، يرعى عنزة ويغرق في كتاب، مرةً في الصباح ومرةً في المساء، فحملني الفضول على النزول في أقرب محطة إليه.

الربيع أعلن عن نفسه مبكرًا هذا العام، رغم أن الجميع في الجزائر يدعو إلى صلاة الاستسقاء، هل بات في غنىً عن المطر والثلوج؟ العنزة البيضاء غارقة في الاخضرار، والفتى الصغير غارق في كتاب ذي غلاف أخضر. تذكرت معمّر القذافي فابتسمت، التقط الصبي ابتسامتي ظانًّا أنها له: "أهلا عمّو"، مددت إليه يدي، ثم برتقالة كانت أهدتها لي صديقة مسرحية فنويتُها لابنتي. امتدّت الغرابة من مشهد الطفل وهو يرعى ويقرأ في الوقت نفسه، إلى عفويته الصارخة في التعامل معي.

لم يسأل عن هويتي وحاجتي، وراح يحدثني عن الدروس الأخيرة التي تلقاها في الصف، بلهجة لم أفهم معها هل هو راض أم ساخر: "أنا الوحيد الذي لا تضربه، لكن لماذا تضربني؟ إنني أحفظ كل شيء وأنجز كل التمارين. عمو.. كيف نعرب هذه الجملة "طلعت الشمس باكرًا"؟

وهو ينقل البرتقالة من يد إلى أخرى، كان يجيب على أسئلتي بملامحَ سكنها الوجع فجأةً: "اسمي محمد الأمين، ولدت عام 2005، في ذلك البيت ذي القرميد الأحمر، هل تراه؟ هو ليس بيتنا في الحقيقة، لكنه أصبح كذلك بعد أن مات أبي قبل سنتين متأثرًا بربوه، صاحبه الذي جلب أبي من منطقة "مفتاح" ليرعى أبقاره، تنازل لنا عنه إلى أن يفتح الله علينا، بعد أن باع كل حيواناته.

أدرس في السنة الخامسة، وأختى مروى في السنة الثالثة، وأخي نجيب في السنة الأولى، وأمي هي من يوفر لنا كل شيء، بما تقبضه من تنظيف العمارات في مدينة بودواو، كما أنها تبيع ما يزيد عن حاجتنا من خضر تزرعها في المساحة الصغيرة التي قرب البيت، فيما أساعدها أنا برعي هذه العنزة حتى نوفر الحليب. لا أكذب عليك، لا تمر ليلة من غير أن نشعر بالخوف في بيتنا المعزول عن السكان، لكنه ليس معزولًا عن الخمارجية والحشاشين، يأتون بالقرب منا عند كل غروب، ويتوزعون جماعات صغيرة تحت الأشجار، لم يحدث أن آذونا، لكننا، رغم ذلك لم نتخلَّ عن خوفنا.

لا يزورنا من أهلنا أحد، ما عدا جدتي لأمي، وقد كفت عن ذلك بعد أن خانها البصر، أما أخوالي، فلا أدري هل ماتوا أم هم أحياء، لأنهم لا يتفقدوننا، ولم أعد أسمع أمي تتحدث عنهم. كم أجد راحتي في هذا الحقل، بمجرد أن أعود من المدرسة، حتى أصطحب كتابي وعنزتي وأقصده. لم يحدث أن لعبت مع الأطفال، ولا أنوي أن أفعل ذلك، أمي تطلب منا دومًا أن نبقى مجهولين في نظر الغير، وتقول لنا: "كلما عرفوكم تجرأوا عليكم".

هل تملكون تلفازًا؟ سألته، فقال إنه، عكس أخويه، لا يرتاح إليه مثلما يرتاح لكتبه. هل تقرأ الكتب يا عمو؟ سألني، وسأحضر لك منها الكثير، قلت له. هل تدري؟ أمي توصيني دومًا ألا أخالط الغرباء، أو أتحدث معهم، لكنني حين رأيتك قادمًا، قلت في نفسي إن هذا ليس من أهل الأذى، رأيتك تشبه أبي، هل ستحضر لي كتبًا بالفعل يا عمو؟

بعد يومين، بينما كانت منهمكة في تنظيف سلالم العمارة، كأنها تنظف بيتها، طلبتُ منها أن تأخذ هذا الكيس لولدها محمد الأمين، فوضعت النشّاف جانبًا، وراحت تتأمّلني:

ـ كيف عرفتَ أنني أمه؟

ـ التقيته في الحقل، وقد عرفتك من خلال حديثي معه، لقد وعدته بأن أزوّده بالكتب ليقرأها وهو يرعى عنزته، خالتي هل تسمحين لي بأن أكون صديقه؟

واجهتُ دموعًا كثيرة في حياتي، لكنني لم أصادف دمعة تثير الدمع مثل دمعتها.

اقرأ/ي أيضًا: 

الخامسة فجرا بتوقيت القمر

لم يهزمني شمس تبريز

مسرى الأطلال