16-مارس-2022
هيمنة الدولار

هيمنة الدولار (Getty)

يُكتب الكثير عن احتمالات الصراع المفتوح الذي افتتحته موسكو في أوكرانيا مؤخرًا ومآلاته. الحديث الرائج على كل لسان يفترض أن الصين قد تستغل الفرصة المتاحة الآن لاحتلال تايوان. والحديث الأكثر رواجًا يلهج باحتمال أن تعمد الصين وروسيا إلى تعاون تجاري واقتصادي ومالي. أبرز وجوهه على الإطلاق اثنان مترابطان: اعتماد نظام الاتصالات المصرفية الذي سبق للصين إنشائه منذ سنوات، والكف عن التعامل بالدولار الأمريكي في التجارة والمدفوعات وسلال العملات الاحتياطية، فضلًا عن سندات الخزينة الأمريكية والأوروبية على حد سواء.

مقتل هذه التحليلات المتكاثرة أنها تفترض أن هذه الجولة من الصراع لن تنتهي وأن الحرب باتت مفتوحة على مصراعيها ولن تتوقف إلا بهزيمة معسكر من المعسكرين على نحو قاطع ونهائي. والحق إن هذا الاحتمال وارد جدًا، لكنه ليس قابلًا للتحليل. فالتحليل يفترض قراءة مصالح الأطراف المتنازعة، وترجيح ما يمكن أن يحدث بناء على قراءة هذه المصالح بدقة وعناية. وواقع الأمر أن قادة العالم ليسوا بالضرورة مدركين لمصالحهم، سواء كنا نتحدث عن دول ذات نظام أوتوقراطي مثل روسيا أو دول ديمقراطية كالولايات المتحدة. فالديمقراطية الأمريكية حكّمت دونالد ترامب سنوات أربع برقاب العالم، ولما ينته عصره بعد. وليس أكيدًا أن الرئيس الروسي مدرك لمصالح بلاده، بل ثمة الكثير من التقارير التي باتت تشير صراحة إلى أنه مصاب بمرض ألزهايمر. ورغم استبعاد هذه الفرضية، إلا أن انتشارها يفيد بحكم قاطع وحاسم مفاده أن الرئيس الروسي دخل في مغامرة غير محسوبة بدقة، وأن نتائجها قد تكون وبالًا عليه وعلى بلاده، فضلًا عن احتمالاتها التدميرية على مستوى العالم أجمع.

احتلال تايوان مغر جدًا، ليس للصين فقط، بل لأي دولة كبرى أخرى، من اليابان إلى الولايات المتحدة إلى ألمانيا. ذلك أنها جزيرة مزدهرة ومتقدمة تقنيًا وصناعيًا وعلميًا

 

الأرجح، وبحسب التحليل أيضًا، أن هذه الجولة ستنتهي وقد يعقبها جولات باردة وربما يكون بعضها ساخنًا. لكن استكمال هذه المواجهة المفتوحة والمرغوبة من أطراف كثيرة، يفترض أن يستكمل المعسكر المعترض على النظام العالمي الذي تقوده واشنطن استعداداته على كل الأصعدة. وأحسب أن هذا الأمر معقد إلى درجة يصعب معها أن نتوقع زمنا منظورا لحصوله.

في استعصاء تايوان

فلنستكمل من حيث كانت البداية: احتلال تايوان مغر جدًا، ليس للصين فقط، بل لأي دولة كبرى أخرى، من اليابان إلى الولايات المتحدة إلى ألمانيا. ذلك أنها جزيرة مزدهرة ومتقدمة تقنيًا وصناعيًا وعلميًا، وتكاد تحتكر صناعات عالية التقنية تحتاج منتجاتها كل دول العالم المتقدمة وفي مقدمهم الولايات المتحدة. دخلها القومي يقارب دخل المملكة العربية السعودية، فيما عدد سكانها لا يتجاوز عشر سكان روسيا التي لا يتجاوز دخلها القومي ضعف دخل تايوان. ولأن الجزيرة مزدهرة ومنخرطة بنشاط في الاقتصاد العالمي المتقدم، فإن الرغبة الصينية باحتلالها وإخضاعها لسلطانها قوية وقاطعة. لكن هذه الرغبة تصطدم دوما باحتمال أن تبدي تايوان مقاومة شرسة لأي محاولة صينية لضمها، ما يعني أنها في هذه الحال لن تؤثر سلبًا على الاقتصاد الصيني والعالمي فحسب، بل ستتحول من جزيرة مزدهرة إلى جزيرة مدمرة، ما يعني زوال الأسباب الداعية لضمها. والحال، فإن ما أظهرته أوكرانيا من مقاومة للهجوم الروسي يجعل من القادة الصينيين أكثر حذرًا في محاولة ضم الجزيرة بالقوة.

الصين: دخول العصر الأمريكي أم الخروج منه؟

بصرف النظر عن الرغبة الصينية في مشاكسة الولايات المتحدة والسعي لتكون رأس العالم الثاني إلى جانب الولايات المتحدة، إلا أن الاقتصاد الصيني هو اقتصاد مرتبط بالغرب بشكل لا يمكن فك عراه. بمعنى أن الصين تبيع وتشتري وتصنع وتستورد تحت هذا السقف الذي تسند الولايات المتحدة معظم أعمدته. واقع الأمر أن الصين رغم كل مشاكساتها طوال العقود الماضية إلا أنها لم تسع جديا للخروج من تحت هذا السقف كما جربت ألمانيا بقيادة أنجيلا ميركل. بل ويمكن القول إن سياسات ميركل وتعاونها مع روسيا، بخلاف رغبة الولايات المتحدة، شكلت بالنسبة لبوتين أقوى أوراقه التي حاول الحفاظ عليها خلال الفترة التي كان يستعد فيها لغزو أوكرانيا. ألمانيا الغربية الهوى والانتماء سلكت في السياسة الاقتصادية مسالك كثيرة كان المقصود منها تقويض الهيمنة الأمريكية على العالم. والحق إن أول نتائج حرب بوتين على أوكرانيا تمثلت في انهيار سياسات ميركل لصالح استعادة الولايات المتحدة لدورها المهيمن على أوروبا ومعظم العالم.

لكن هذا كله لا ينفي الرغبة الصينية في تقويض الهيمنة الأمريكية لصالح هيمنة صينية إن أمكن. السؤال الذي يجدر بنا طرحه في هذا السياق: هل تريد الصين تقويض الهيمنة الأمريكية لصالح إنشاء وتأسيس عالم مواز للعالم الذي تسرح أمريكا وتمرح فيه. على النحو الذي كانه الاتحاد السوفييتي سابقا، أي عالم من القيم والأفكار وطرق العيش وسبل الاستهلاك يختلف جذريًا عن العالم السائد؟ والإجابة لا تحتاج لجهد كبير لتبين ملامحها: لا تريد الصين تدمير العالم على صورته القائمة، لكنها تريد التسيد عليه إن أمكنها ذلك. والحال، فإن اعتماد الصين على نظام مراسلات مصرفية سوى الذي تعتمده الدول الغربية، يعني في واقع الأمر أنها تريد أن تبقى في هذا العالم لكنها تريد امتلاك بعض مفاتيحه. وهذا كما هو واضح ومعلوم لا ينسجم مع خطط بوتين التي تعود أصولها وقيمها إلى القرن التاسع عشر وما قبله.

أمريكا تسيطر على خيال العالم وهي من يقرر في نهاية المطاف ما يجدر بنا استهلاكه وما لا يجب علينا أن نستهلكه. تستطيع جامعة مرموقة في الولايات المتحدة أن تطيح باقتصاد دولة مثل البرازيل، بسبب بعض تقارير قد لا تكون صحيحة أبدًا

 

هل تريد الصين أن تبيع أصولها من العملات الصعبة؟ الأرجح أن هذا الأمر مطروح كل لحظة، لكن هذا القرار شمشوني بامتياز، بمعنى أن بيع الأصول والسندات على نحو واسع وسريع سيؤدي إلى انهيار قيمتها قبل أن تتمكن من بيعها. بهذا المعنى مفهوم أن تنوّع الصين سلال العملات الصعبة فلا تعتمد على الدولار فقط. لكن العملات الأخرى مرتبطة بالدولار ولا يمكن فك أسرها عنه. بكلام أوضح: قصارى ما تطمح له الصين في هذا الصدد أن يصبح اليوان جزءًا من سلة العملات هذه، وأن تلجأ المصارف المركزية في أوروبا وأمريكا إلى تضمينه ضمن احتياطياتها. وبعدها فليفعل الزمن فعله، فقد يتقدم على الدولار وقد لا ينجح، وقد يتقدم على الين أو اليورو وقد لا ينجح أيضا.

الهيمنة على خيال العالم

إلى هنا يبدو التحليل مقتصرًا على المنطق الصرف. لكن السيطرة الأمريكية على العالم لا تتلخص بهذا المنحى الرقمي فقط. أمريكا تسيطر على خيال العالم وهي من يقرر في نهاية المطاف ما يجدر بنا استهلاكه وما لا يجب علينا أن نستهلكه. تستطيع جامعة مرموقة في الولايات المتحدة أن تطيح باقتصاد دولة مثل البرازيل، بسبب بعض تقارير قد لا تكون صحيحة أبدًا. كأن تصدر هارفارد دراسات تقول إن لحم البقر البرازيلي لا يصلح للاستهلاك البشري، أو تؤكد أن البن يلحق أضرارًا فادحة بالصحة العامة. وسيصدق العالم من دون تدقيق. وأمريكا تستطيع أن تعمم النموذج الأنسب لكيفية إدارة حيوات أهل الكوكب. تنشأ شركة أوبر في الولايات المتحدة، وسرعان ما تصبح إمبراطورية لا حدود لها، ولا يمكن مواجهة زحفها. تضرب بعض الأمريكيين المتنفذين حمى استعمار الفضاء، فتضطر الصين أن تلحظ في موازنتها صناعة سفن فضائية ومحاولة اللحاق بهذه الحمى غير المنطقية وغير المفهومة حتى اللحظة. في الخلاصة، معظم ما نتوكأ عليه اليوم في حياتنا وعملنا وسعينا أمريكي المصدر. بل إن الرئيس الروسي الذي يلهج لسانه بحديث القوميات والإمبراطوريات الغابرة، لا يكف عن تصوير جذعه العاري ونشره على وسائل التواصل الاجتماعي، وهو بذلك لا يختلف عن كيم كارديشيان أو يحيد عن مسلكها قيد أنملة.

طبقات المستهلكين

يبقى أن المسألة التي تكاد تكون مستعصية على الحل تتعلق بالاستهلاك المنتج. الأمريكيون نصبوا أنفسهم بوصفهم مستهلكين مميزين، يجدر بشركات العالم أجمع أن تعرض منتجاتها عليهم، فإن لاقت قبولًا واستحسانًا لديهم، تصبح هذه المنتجات والسلع قابلة للانتشار في كل العالم. هذا يبدأ من ماكدونالد، ويمر بشركات تويوتا ومرسيدس، ولا ينتهي بآبل وغوغل. نحن أمام مجتمع كامل يستهلك منتجات العالم أجمع ويكافأ على استهلاكه. بهذا المعنى، لن تنجح محاولات إنشاء أقطاب موازية لأمريكا إن لم تنجح تلك الدول في التخلص من هيمنة أمريكا القاطعة على أذواق البشر في كل مكان. الصين تصنع ما تصنعه، لكننا لا نعرف حقًا كيف يعيش الصينيون لنقرر تقليدهم. على العكس، بنت الصين أبراجها العالية على خطى نيويورك، وأنشأت جسورها وطرقاتها السريعة ومثالها في كاليفورنيا، وحين أرادت أن تنمي مناطقها الأفقر، جرتها جرًا إلى منطق الاستهلاك الآنف ذكره، ولم تسع للمحافظة على محليته وأصالته.

الرئيس الروسي الذي يلهج لسانه بحديث القوميات والإمبراطوريات الغابرة، لا يكف عن تصوير جذعه العاري ونشره على وسائل التواصل الاجتماعي، وهو بذلك لا يختلف عن كيم كارديشيان أو يحيد عن مسلكها قيد أنملة

 

من دون ولادة طرق عيش جديدة ومختلفة عن التي يقررها لنا الغرب وأمريكا على قمته، لن ينجح أي مسعى لاستيلاد ثنائية لحكم العالم. سيبقى الدولار ملكًا للعملات، وسيبقى الخيال الأمريكي متربعًا في أذهان البشر كلهم، وستبقى ميريل لانش هي من يقرر إذا كان اقتصاد الصين جيدًا أم لا، وستستمر جامعات أمريكا في تقرير ما هي الحمية الأفضل لإنقاص الوزن وما هو الطعام الأصح الذي يجدر بنا تناوله، وستبقى ستاربكس هي قهوة العالم. عدا ذلك لا تبدو الحرب الحالية موصلة إلى أي مكان. قصاراها أن تدمر العالم كله، لكن مسارها المنطقي يشير إلى أن مغامرة الرئيس الروسي ستنجح في إعادة روسيا إلى عصر إيفان الرهيب وليس بطرس الأكبر بطبيعة الحال، هذا إذا لم يتم إيقافه عند حده.