09-ديسمبر-2021

الكاتبة نسرين النقوزي

تتمحور رواية "المنكوح" (دار ابن رشد، القاهرة 2021) للبنانية نسرين النقوزي على شخصيتين بلا وجهين. مجيد الأمازيغي الجزائري وحسان السوري. الشخصان لا يملكان وجهين، بل صورًا لوجهيهما، ذلك أنهما يتلاقيان ويتحادثان عبر الإنترنت. وتاليًا لا شيء يمنعنا أو يمنع أي منهما من الافتراض أن الآخر غير موجود أصلًا. وعلى ذكر الانوجاد وعدمه، فإن حسان السوري يقدم نفسه كشاعر وأستاذ في ثانوية، في حين أنه مجند في حرب أهلية، الكل فيها خاسرون. وهو تاليًا كشاعر وأستاذ غير موجود أساسًا إلا في مخيلة مجيد. وفي وسعنا على النحو نفسه أن نتخيل أن مجيد نفسه يؤلف شخصيته، وهو يغش حسان والروائية والقارئ في الوقت نفسه. والرواية أيضًا بوسعها أن تكون حقيقية، لأن ما يجري فيها قابل للتصديق، وفي وسعها أن تكون تأليفًا صرفًا. وفي حال كانت كذلك، فإن الروائية في هذه الحال، تغش أيضًا، ذلك أن الرواية تترك في قارئها آثارًا عميقة. وهذه الآثار ما كانت قادرة على الحفر لولا أنها تشبه ما يمكن أن يكون قد حدث حقًا. ولا يتورع قارئها أثناء قراءتها وبعد الانتهاء منها من إعادة التفكير في معنى حياته، وحدود التشابه بين حياته وحياة شخصيتي الرواية، وما يلوح في أفق المستقبل جاثمًا وقاتمًا للشخصيتين نفسيهما، وللقارئ والروائية على حد سواء.

تدور رواية "المنكوح" بين شخصيتين بلا وجهين. مجيد الأمازيغي الجزائري وحسان السوري. الشخصان لا يملكان وجهين، بل صورًا لوجهيهما

عال العال، هذه صناعة غش من أولها. إنما منذ متى كانت الوقائع والحقائق أصدق تعبيرًا من المزيف والمؤلف؟ الحقائق أساسًا لا تأتي عارية. دائمًا يغلفها مطلقها ومكتشفها بمواقفه المسبقة. لقد أحب فلان فلانة وخانته. هذه حقيقة، لكنها مخاتلة أيضًا بقدر ما هي صادقة. فهذه الخائنة لم تحبه أصلًا حتى تخونه، وإن كانت جارت هواه وتماشت معه في لحظة ما، فهذا يعني أنها خانت من تحب معه. والحال، يمكن القول بأريحية، إن الحقائق العارية لا تولد إلا من رحم الغش والتزييف.

اقرأ/ي أيضًا: هدى بركات في "بريد الليل".. رسائل البؤس وقلة الحظ

لنعد إلى حسان قبل أن ندخل في متاهات شائكة. حسان الذي "يفبرك" شخصيته ومهنته ومهاراته، لم يكن ليكون قادرًا على هذا الإبداع لولا أنه يمتلك وسيلة، نمتلكها جميعًا، تحث على الغش. إنها وسائل الاتصال الحديثة، التي لا تشترط على مستخدميها تقديم بيانات رسمية. على "ماسنجر" تستطيع أن تكون رجلًا أو امرأة، مفكرًا أو مغنيًا أو حمالًا. جميلًا أو ذا هيئة متوحشة. والآخر سيقبل ادعاءك وسيجبر نفسه على تصديق الادعاء. ذلك أن محرك الخيال لا يمكنه أن يقلع إن لم نرسم صورة للآخر. بعد رسم هذه الصورة، سنستطيع أن نحادثه، أو نغازله، أو نمدحه. الأمر سيان. إنما يجب أن نصدق البيانات الأولى. أصلًا نحن لا نرغب في تكذيبها. وما أن نصدقها حتى يصبح بإمكاننا أن نصدق أو نكذّب ما يلحق بها من أفعال وأقوال. شرط التحقق من صحة ما يجري أن نصدق الخرافة الأولى. وإذا أردت الإيضاح أكثر يمكنني تلخيص هذا الشرط بما يلي: حسان يقاتل دفاعًا عن نظام، هو نفسه ليس مناصرًا له. ما الذي يجبره على مواجهة الموت من أجل النظام؟ هذه هي الكذبة الأولى التي علينا تصديقها، حتى يمكننا بعد الاتكاء عليها أن نعترض أو نوالي. المعارضون الذين يقاتلون النظام، هم أيضًا يصدقون الكذبة نفسها. والكذبة قد تكون وطنًا، أو أيديولوجيا، أو أملًا بالمستقبل، أو وهمًا بالاستقرار. وهم يقاتلون النظام ليس لأنه لم يكن قادرًا، بل لأنه لم يكن عادلًا. هل نسأل أنفسنا إن كان النظام حقًا قادرًا؟ أم أن هذه الكذبة غير قابلة للتمحيص، وستبقى من ضروب الإيمان. ما سبق ذكره عن الوضع السوري، يمكن أن نسحبه طردًا على أوضاع البلاد جميعًا، بما فيها بلد مجيد.

يصادف أن يكون زمن الرواية هو زمن "الثورة الجزائرية". حسان كان في ذلك الوقت يعيش خيبة الثورة وخيبة النظام. لقد كلفت هذه الخيبة السوريين مئات آلاف القتلى والجرحى وملايين اللاجئين، وجوعًا وعوزًا وتقلقلًا لا حد له. لكنهم استطاعوا في نهاية الأمر أن يكتشفوا كذبة الوطن وكذبة النظام وكذبة الهوية وكذبة الأفكار. الجزائريون، كانوا ما زالوا يصدقون كذبتهم في اللحظة التي انفجرت الكذبة بوجه السوريين وأدمتهم. وحسان كان يرى الوجه الدامي للجزائر في وجه سوريا الدامي. مع ذلك لم يصرح بشيء لمجيد. ذلك أن مجيد، هو الوحيد في هذه الدنيا الذي لم يكن يصدق هذه الكذبة أصلًا. هو، على ما تقول الرواية، "المنكوح"، بمعنى أنه من الناس الذين يضر ازدهار البلاد بأوضاعهم كما تضرها أزماتها. هو من الناس الذين يعيشون على هامش الازدهار والأزمة. لا يتغير في وضعه شيء مع تغير أوضاع البلاد، أكانت ديمقراطية أم دكتاتوية، بلدًا نفطيًا أم زراعيًا. أحواله ستبقى على ما هي عليه في كل حال.

نسرين النقوزي تكتب رواية تفلت من يديها ومن يدي القارئ على نحو متزامن. رواية، يمكنها أن تعرّيك في نصف ساعة

وعليه، ليس ثمة من حاجة لديه لتصديق كذبة الهوية والوطن والثورة والتقدم. إنه بكلام أدق الرجل الذي لم يملك حلمًا أصلًا. وبخلاف حسان الذي يملك حلمًا ويكذب على نفسه وعلى العالم اعتدادًا بهذا الحلم، لم يكن مجيد يومًا يسعى لأن يكون كذبة أخرى من الأكاذيب التي يحفل بها هذا العالم. كأن يكون حسان شاعرًا، أو يكون قارئ هذه المقالة مهندسًا، أو تكون كاتبة الرواية روائية، أو أكون أنا كاتب هذه المقالة كاتبًا. لقد حصل وأن أصابعي تنقلت على لوحة المفاتيح لتنقش هذا الكلام. لكن صفة الكاتب ليست صفتي. أنا في نهاية الأمر مزيج من كل حلم حلمته ومن كل نشاط اختبرته ومن كل خيبة أيضًا. وغلبة صفة من الصفات على تعريفي هي كذبة كبرى، لكنها على نحو ما تسجنني في إطارها كما تسجن الروائية في إطار صفتها.

اقرأ/ي أيضًا: أديل الخشن: أيتها الريح توقفي خارجًا

نسرين النقوزي تكتب رواية تفلت من يديها ومن يدي القارئ على نحو متزامن. رواية، يمكنها أن تعرّيك في نصف ساعة. مع ذلك، تجرؤ بعد وقت أن تعود لممارسة الكذب مدعيًا أنك تكتب نقدًا لرواية غلبتك منذ صفحاتها الأولى.

 

اقرأ/ي أيضًا:

صباح سنهوري: ستغمر المحبة العالم

رواية "غانيات بيروت".. رثاء مدينة ونجومها