08-نوفمبر-2021

من الفيلم (IMDB)

"يخلّف الأدباء كتبًا، ويخلّف السينمائيون أفلامًا. أما نحن، فأي أثر سنترك؟ إننا نمارس مهنة الرمال وسيتم كنسنا! ماذا سيبقى منك ومني سوى ذكرى عابرة بأذهان الناس؟". هكذا علقت المذيعة الفرنسية الأشهر كلير شيزال على قرار التخلي عن خدماتها كمقدمة لنشرة الأخبار الرئيسية بعد ربع قرن من تربعها على عرش المحطة الأشهر TF1.

لا يحاول صناع فيلم "Spotlight" استجداء تعاطف المشاهدين بأداء مبالغ فيه، كما لا يستثير غضبهم بمشاهد تحرش مقرفة وصادمة

كان بإمكان شيزال أن تضفي بعضًا من الرومنسية الكاذبة على مآل ذكراها، وأن تخفي خيبة "كنسها" وراء الادعاء برغبتها في الالتفات إلى أمور أهم. لكنها وعلى العكس من ذلك تحلت بشجاعة نادرة حينما وصفت مسارًا مهنيًا حافلًا بأنه مجرد كومة من رمل. من ينشد الخلود ينحت على الصخر، والخلود بالنسبة لصحفية ناجحة بكل المقاييس لا يكون إلا للأدباء والسينمائيين، لكن ماذا لو اتكأت السينما على الصحافة، واقتنصت من مآثرها بطولة تستحق أكثر من الكنس كرمال لا قيمة لها؟

اقرأ/ي أيضًا: "إتيرنالز" ممنوع من العرض.. أول فيلم من "مارفل" بمشهد "جنسي" وشخصية مثليّة

قبل مدة زُلزلت أركان الكنيسة الكاثوليكية في فرنسا بعد نشر نتاج عمل لجنة التحقيق في جرائم الاعتداء الجنسي المفزعة، التي راح ضحيتها آلاف القصر ممن ترصّد لهم الانتهاك في دهاليز دور العبادة. كالعادة تم السعي لتخطي الأمر إعلاميًا ولملمة الفضيحة المندلقة في ردهات المؤسسات الإعلام ككومة رمل يستوجب كنسها!

في عام 2002، نشرت جريدة بوسطن غلوب الأمريكية تحقيقًا مزلزلًا عن اعتداءات جنسية تعرض لها عشرات الأطفال من قبل كهنة بالكنيسة الكاثوليكية. بعد أشهر من العمل المضني لفريق جاد مدفوع بالرغبة في إطلاع الرأي العام على جريمة منظمة تم التستر عليها لعقود، تم نشر التحقيق الذي تحول من فضخ كاهن واحد إلى الكشف عن تورط 249 آخر بمدينة بوسطن لوحدها في اعتداءات جنسية على أكثر من 1000 طفل، لتتوالى الاحصاءات المرعبة عن الجرائم التي تحالفت أجهزة مختلفة في التستر عليها. جريدة بوسطن غلوب لوحدها نشرت أكثر من 600 مقال عن الموضوع في عام 2002 فقط، وانتهى الأمر بإدانة 249 كاهنًا وأخًا من أبرشية بوسطن بالاعتداء الجنسي.

كان على الجمهور السينمائي الانتظار 13 عامًا ليشهدوا اقتباس التحقيق الفائز بجائزة بوليتزر المرموقة إلى فيلم حتى لا تكنس ذكرى الضحايا ككومة رمل. في عام 2015 عرض "سبوتلايت" (Spotlight) لأول مرة. الفيلم الذي اتخذ مسارًا مختلفًا عن المتوقع في معالجته لقضية شائكة تستوجب أقصى درجات الحذر في التعاطي معها. معادلة نجح الفيلم فيها بشكل جعل قبول الحديث ممكنًا عن تابو جاهد التيار المحافظ في أمريكا لردمه تحت أكوام من كثبان الإنكار والمكابرة.

من بين أهم نقاط القوة في فن السينما توثيق الحقيقة، وتخليدها بما يتجاوز مدى عمر الخبر

من بين أهم نقاط القوة في فن السينما توثيق الحقيقة، وتخليدها بما يتجاوز مدى عمر الخبر. أيضًا يمكن لفيلم واحد من ساعتين اختصار آلاف الساعات من التحقيقات والاستثمار الرخيص والمؤقت في مآسي البشر. يستمد فيلم سبوتلايت أهميته في تقديمه لنموذج استثنائي لما يمكن أن ينجزه صحفي مثابر، وسينمائي مخاطر كمخرج الفيلم وكاتب السيناريو المشارك توم ماكارثي.

اقرأ/ي أيضًا: ديزني ترضخ وتمنح تسوية ضخمة لسكارليت جوهانسون

لا يحاول صناع فيلم سبوتلايت استجداء تعاطف المشاهدين بأداء مبالغ فيه، كما لا يستثير غضبهم بمشاهد تحرش مقرفة وصادمة. كل الحوارات هي تورية لمخاوف ورغبات وأحلام يؤديها الممثلون بهدوء. ليس هناك من مشاهد صراخ مبتذلة. المشهد الوحيد الذي يصور انفعالا قويا هو حينما يستشف مايك ريزنديس (مارك رافالو) أحد أفراد فريق الصحفيين المحققين إمكانية تأجيل الصحيفة لنشر التحقيق إلى غاية جمع أدلة تسقط أكبر عدد من المتورطين، حينها يفقد أعصابه مخاطبا رئيسه وزملاءه: "حان الوقت (وقت نشر التحقيق). لقد كانوا يعلمون، مع هذا تركوا الأمر يحدث لأطفال. كان واردا أن تكون أنت الضحية، أنا أو أي أحد منا. يجب أن ننال من هذه الحثالة. يجب أن يرى الناس أن لا أحد يمكنه النجاة بفعل مماثل، لا كاهن ولا كاريدنال أو حتى البابا".

 

يبتعد الفيلم عن التصوير البطولي للصحفيين الذين تحدوا جهازًا قضائيًا خذل الضحايا مرتين. مرة حينما حاول التستر على الحقائق، ومرة حينما حول المحامون مأساة الضحايا إلى مضخة لتجارة التسوية المالية السرية بين الضحايا والجناة. يختتم بمشهد هادئ لقاعة التحرير تعيش تداعيات نشر التحقيق الصدمة. عشرات الاتصالات لضحايا أمدتهم الصحيفة بالشجاعة للتصدي لسنوات من مخلفات العار الذي خلفه الاعتداء في نفوسهم. ممارسات فاقمها التستر الممنهج للكنسية حيث كشفت وكالة أسوشيتد برس في وقت لاحق عن تورط البابا بنيديكتوس والبابا فرانسيس بحماية قساوسة متورطين في انتهاكات جنسية، بما وضع الفاتيكان في مرمى اتهام الأمم المتحدة عام 2014 بحماية المعتدين ونقلهم من مكان لآخر للتستر عليهم. الأمر الذي حدث مع كاردينال أبرشية بوسطن الذي ارتاح الكثيرون لقرار استقالته عقب الفضيحة، ليتفاجأ الجميع بإعادة تعيينه في واحدة من أكبر الكنائس الكاثوليكية في العالم بمدينة روما.

بعد تألقه في مهرجاني فينيسا وتورنتو، ترشح فيلم سبوتلايت عام 2015 لـ6 جوائز أوسكار، وفاز باثنتين هما جائزة أفضل سيناريو أصلي والجائزة الأهم أفضل فيلم للسنة. أهدى توم مكارثي في كلمة التتويج الفيلم "للصحفيين الذي يسعون لتحميل أصحاب السلطة مسؤولية أفعالهم، وللضحايا الملهمين الذين تحلوا بشجاعة كبيرة لتجاوز مآسيهم".

 

هل ستغفر خطايا الكنيسة في فرنسا؟

تحقيق سبوتلايت تحول إلى كرة ثلج عرّت تاريخًا موغلًا في الإساءة في عشرات المدن في دول عديدة منها أستراليا، ألمانيا، إيرلندا، إنجلترا، بولندا وتشيلي، لتكون فرنسا آخر الملتحقين بركب الكشف عن مأساة تعرض لها الآلاف، لكن يبدو أن العدالة إلى حد الآن تتعامل بطريقة لا تتناسب مع حجم الجرم، حيث أدين العام الماضي القس الفرنسي برنارد بريبنات بخمس سنوات سجنًا  فقط كعقاب له على اغتصاب 85 طفلًا. إدانة تطورت إلى تحقيق معمق كشف عن ماض أسود للكنسية الكاثوليكية خلال النصف الثاني من القرن الماضي وقتما تم الاعتداء جنسيًا على أكثر من 216 ألف قاصر من قبل كهنة كاثوليكيين قدر عددهم بحوالي 3000 رجل دين.

تحقيق سبوتلايت تحول إلى كرة ثلج عرّت تاريخًا موغلًا في الإساءة في عشرات المدن في دول عديدة 

اقرأ/ي أيضًا: الحيوان في السينما.. أفلام عن أكبر مُعلّمِي الإنسان

في فرنسا قام المحققون بدورهم، وسعوا بكل ما أوتوا من عزيمة إلى كشف الانهيار الأخلاقي الكبير داخل المؤسسة الدينية الأكبر في البلد. لكن الواقع يقول إن الحدث سيكنس بسرعة دون أن يُسمح له بالاستيلاء على المشهد لفترة طويلة في بلد مقبل على انتخابات حاسمة يعيد فيها الرئيس ماكرون المتراجعة شعبيته الترشح مرة جديدة. يبقى السؤال معلقًا في بلد أمد السينما بتيار شجاع هو الموجة الجديدة في الستينيات، هل سيخرج صانع فيلم شجاع ويخلد مأساة عشرات الآلاف من الضحايا في فيلم حتى لا تكنس جرائم الكنيسة ككومة رمال؟

 

اقرأ/ي أيضًا:

فيلم "تشرنوبل: الهاوية".. اختزال الكارثة

فيلم "The Mauritanian".. سيرة الإنسان المستباح