08-أغسطس-2017

لقطة من الفيلم

"المجد للرب
ألم ترَ أن رغباتك لا تلبى إلاّ برضاه"

هذه بعض العبارات المغناة في مراسم زفاف فتاة، تبدو وحيدة تمامًا في كادر افتتاحية الفيلم، بنظرات مستكشفة والكثير من الإرباك والاستغراب، لا نرى إلاّ شخصين يقفان وراءها، معالمهما غير واضحة.

أمّا الذي تتزوج منه الآن فلا يظهر من تفاصيله شيئًا، كما وتوحي هذه الافتتاحية بالكثير مما لا يقوله الفيلم عن حكاية السيدة الصغيرة التي ستكون أمام تجربة إثبات نفسها وتمردها على السلطة الذكورية الواقعة تحت وطأتها، فتلبي رغباتها دون رضى من أحد، ويحل منطق التمرد محل أيّ مجد أخر وسلطة يمكن أن تعيقها عن تحقيق مآربها.

تتغلب كاترين بطلة فيلم "Lady Macbeth" على كل ما تؤمر به، ليس لأنه مفروض ويجب التمرد عليه، بل لأنه ظالم بحقها، وشخصية مثلها لا يمكن أن تقول نعم إلا حينما تشاء.

تتغلب كاترين بطلة فيلم "Lady Macbet" على كل ما تؤمر به، فشخصية مثلها لا يمكن أن تقول نعم إلاّ حينما تشاء

تلك التفاصيل التي يفتتح بها المخرج الشاب ويليام ألدرويد عمله الروائي الثاني "الليدي ماكبث" المستند على قصة الروائي الروسي نيكولاي ليسكوف (1831-1895) بعنوان Lady Macbeth du District de Mtsensk، أو "الليدي ماكبث من منطقة متسنسك"، والتي كتبها في عام 1865، حيث تروي قصةً عن دور المرأة في المجتمع الديني الأبوي، وما الذي يمكنها فعله عبر التمرد والتحدي للوصول إلى غايتها، وانفلات سلسلة أطماعها ورغباتها حتى تصل بها إلى القتل، دفاعًا عن سلطة أو حب.

اقرأ/ي أيضًا: فيلم "الملك آرثر: أسطورة السيف".. غاي ريتشي التائه في عالم الفانتازيا

وللنص أهمية كبيرة، فقد تم إنجازه بأكثر من نوع فني، فتنقل من كونه نصًا بالروسية، إلى أفلام سينمائية، وصار لاحقًا موضوعًا لأوبرات، كان قد عمل عليه المؤلف الموسيقي العالمي دميتري شوستاكوفيتش دون أن يكمله، حين كان أوبرا عن مصير المرأة الروسية خلال حقب مختلفة، يرصد حياتها تحت طغيان المجتمع الذكوري والحكم الخالص للزوج أو الأب، وتنتهي لتكون أشبه بأنشودة سوفيتية حول مصير ذات المرأة وتغيرها بتغير التاريخ والمجتمع.

ما عمل عليه ويليام ألدرويد في واحد من أهم الاقتباسات السينمائية للنص الروسي، مع الكاتبة أليس بيرش التي كتبت النص الجديد، فنرى فيه كاثرين التي أدت دورها الممثلة الشابة فلورنس بوغ، والتي بيعت مع قطعة أرض لابن رجل إقطاعي ثري يملك مناجم تلك المنطقة.

تعيش كاثرين مع الكثير من الأوامر والمحرمات في حياة رتيبة في بيت هذا الإقطاعي وتحت إمرته، كسيدة بدون عرش، وامرأة بشخصية عنيدة تبدو كذلك منذ اللحظات الأولى لها مع زوجها، حين يتلو عليها التعاليم فترفضها، ولكن عقاب الزوج في ذلك المكان كعقاب الرب، وأوامره يجب أن تنفذ.

هذا ما أخذته كاثرين على عاتقها، فراحت تعيق تلك الأوامر أمام عجز الزوج الجنسي، وتناسيه الكامل لأمر زوجته، رغم أن السيد الإقطاعي اشترى لابنه امرأة لتنجب الوريث فقط.

لا يمضي الكثير من الوقت حتى تبدأ الليدي الصغيرة باسترداد حقها كأنثى بالدرجة الأولى، ولاحقًا كوريث وحيد للعرش العقيم، وعلى طريقة انتقامية تشبه قسوة ذلك المكان الريفي البارد.

يرى ويليام ألدرويد في باكورة أعماله Lady Macbeth، حكاية التمرد الأنثوي والمكان الذي تصل  إليه الشخصية المتمردة بدوافع ذلك التمرد

تعيش هناك كشخص مجمد لرغبات شخص غائب، ريثما تعجب بالخادم سيباستيان أحد العمال في ممتلكات زوجها، لا تقاوم رغبتها اتجاهه، فتؤسس لقاءاتها الليلية معه عتبة التمرد وانفلات النوازع على الحب، وتبدأ بالتخطيط إثر تداعيات الأمر الجلل للانتصار على التعاليم الأبوية، إرضاءً لرغباتها، فتضع السم في طعام والد زوجها، وتتخلص منه، وبعدها تقتل الزوج بمساعدة عشيقها.

وهكذا تكبر فكرة القتل ليصبح هدفها التمسك والانفراد بالعرش والسلطة، فيصبح عشيقها "ماكبث" شكسبيريًا مترددًا وضعيفًا، لا يقوى على الاستمرار في الفعل، فتظهر الشخصية الحقيقة لليدي ماكبث تقف عند بواطن الضعف عند العشيق تدفعه باسم الحب للاستمرار في لعبة القتل، خصوصًا بعد أن جاءت امرأة غريبة لتقول بأن الطفل تيدي حفيدها، هو الابن غير الشرعي لألكسندر ليستر وتطالب بحصوله على حقه فهو الوريث، لا تقف كاثرين بوجه المرأة ولكنها ستفقد الحب إذا سمحت لهذا الوريث بالاستيلاء على الملك، فتجتمع مع العشيق على قتل الطفل.

وعندما سُئلت عنه سارعت لاتهام سيباستيان وخادمتها التي كانت قد فقدت القدرة على النطق إثر ما رأت من سيدتها. وهكذا ينتصر لكاثرين مجتمع الأسياد والإقطاعيين، فترسل الخدم إلى خاتمتهم بعد أن صدق الجميع كلامها، هي ذاتها القوانين التي قتلت لتحاربها، صدقتها وعاقبت الضعفاء. ينتهي الفيلم والسيدة الصغيرة متربعة على أملاكٍ حصلت عليها بالدم المراق.

ربما يكون استحضار شخصية الليدي ماكبث في هذا الزمن، بكل ما تحمله من تمرد وقوة وتمرس على القتل، دافعًا للتفكير بالعلاقة بين سلطة ذكورية وأخرى أنثوية لها ذات المعايير التي تسيرها، كالحب والعواطف التي تدفعها لدفع إنسانيتها ثمنًا للحصول على سلطة ما.

اقرأ/ي أيضًا: وهم الوجود في فيلم The Truman Show

يرى ويليام ألدرويد في باكورة أعماله، كما الكثير من الفنانين والمخرجين الذين اقتبسوا عن تلك الرواية حكاية التمرد الأنثوي، والمكان الذي تصل إليه الشخصية المتمردة المسيرة بدوافع ذلك التمرد.

يتمتع إخراج ويليام ألدرويد بالبساطة والدقة على حد سواء، فبيت الإقطاعي والأمكنة الأخرى التي تجري بها الأحداث، كالحظيرة والكثير من المشاهد الخارجية عند البحيرة، وبين الأشجار، وأخرى في مكانٍ مفتوح يوحي بما أسسه شكسبير في مسرحيته "ماكبث" حيث العراء والهواء والترقب.

وإلى جانب مشاهد الدماء والقتل، كان أهمها مشهد قتل كاثرين لحصان زوجها، لكي تخفي أمر مجيئه إلى البيت، وتبث إشاعة أنه مفقود، تحمل البندقية وتطلق النار على الحصان فتقع على الأرض، في كل مرة، مرتبكة وخائفة تعيد الكرة، لا تقوى على القتل ولكنها محكومة بالدوافع النفسية التي جعلتها تقتل لتحافظ على الحب، والذي تخلت عنه عندما شعرت بالخطر.

استحضار شخصية ماكبث بهذا الزمن، بكل ما تحمله من تمرد وقوة وتمرس على القتل، دافعًا للتفكير بالعلاقة بين سلطة ذكورية وأخرى أنثوية

إلى جانب ذلك هناك الكثير من "الجيستات" التي ميزت إخراج هذه النسخة، جعل منها المخرج عبر اللقطات المتوسطة التي اعتمدها في أغلب مشاهده، وتعابير الوجه التي ترصد تطور الشخصية وتغير دوافعها.

استطاع كل ذلك أن يجعل من كاثرين ليدي ماكبث بسنٍ صغيرة، كما ونلاحظ ذلك على سيباستيان المدفوع بأمر الحب إلى المتابعة بالقتل وإخفاء الحقيقة، أمّا خادمتها الشخصية آنا، فقد بدت أكثر الشخصيات حساسية أمام كل ما يجري، خافت أن تبوح بالحقيقة، ولم تجرأ على الهرب، فسكت لسانها وعجزت على الكلام بقية حياتها، ووصل بها ذلك إلى السكوت الأبدي، ومن ثم الظلم. سكوتها غير الإرادي جعل منها ضحيةً بأسباب مكتملة.

هي شيطنة الليدي ماكبث، التي تقلدت شخصيتها في متسنسك كاثرين زوجة ليستر المباعة، وأصبحت فيما بعد ملكة على عرش فارغ.

 

اقرأ/ي أيضًا:

قصة فيلم"سواق الأتوبيس" وسحر الواقعية الجديدة

فيلم "الرجل الذي فقد ظله".. كيف يمكن للوهم أن يدمّر صاحبه؟