02-يناير-2019

من الفيلم (imdb)

في مكان يُسمح فيه للكل بحمل السلاح ويجيز القتل دفاعًا عن النفس في حال رفع أحدهم المسدس في وجهك، وفي ظل عدم إمكانية الدولة السيطرة على الأمن والعصابات وقطاع الطرق، يتم وضع جوائز لمن يستطيع الإمساك بالمجرمين وتسليمهم للعدالة أو قتلهم وفي الحالتين ربح الجائزة. الجميع مسلحون والسلطة الوحيدة هي القوة، وبمجرد وجود جوائز مالية لمن يقوم باصطياد المجرمين ورجال العصابات يخلق قوة سوقية لصالح العنف.

يسلط فيلم "الثمانية الكريهون" الضوء على أهمية المساواة والحكم باسم الشعب ككل

إنها أميركا بعد الحرب الأهلية، في النصف الثاني من القرن التاسع عشر، إذ نشبت الحرب على خلفية انفصال 11 ولاية أمريكية وتشكيل كونفدرالية في مقابل دعاة الاتحاد الذي أنهى المعركة بالفوز بعد أربع سنوات دموية ذهب فيها ما يقارب 750 ألف قتيل. كانت للحرب أبعاد عرقية فيما يخص قوانين الرق وعدم المساواة بين البيض والسود، وتقول إحدى الشخصيات في الفيلم "السود لا يشعرون بالأمن إلا عندما يتم تجريد البيض من سلاحهم أو تزوير رسالة من الرئيس الأمريكي إبراهام لينكولن".

اقرأ/ي أيضًا: فيلم "Journey's End".. عدسة مقرّبة على حياة جنود الحرب العظمى

في هذه الأجواء، بعد انتهاء الحرب الأهلية بفترة وجيزة، تدور أحداث فيلم "الثمانية الكريهون" (The Hatefull Eigh) الذي يسلط الضوء على أهمية المساواة والحكم باسم الشعب ككل، وليس فقط باسم الشعب الأبيض. يطرح مخرج الفيلم ومؤلفه (إنتاج 2015) كوينتين تارانتينو نموذجًا مصغرًا للجدالات التي دارت بين طرفي النزاع، دعاة الانفصال ودعاة الاتحاد. تجري أحداث الفيلم في متجر ميني للخردوات حيث يتم تقسيم المتجر الى نصفين بواسطة الكراسي بين طرفي النزاع، وتجري فصول الفيلم لتسيل دماء كل من كان داخل المتجر في النهاية.

قصة الفيلم

كان جون روث رجل المشنقة يصطحب ديزي دمرغيو لتنفيذ حكم الإعدام القانوني بحقها من قبل السلطات في بلدة ريد روك، ويقبض الجائزة الموضوعة لمن يقوم بتسليمها حية أو ميتة. أثناء الرحلة يتعرض جون روث لعاصفة ثلجية ويقابل في الطريق كل من صائد الجوائز الرائد ماركوس، والشريف الجديد لبلدة ريد روك كريس مانيكس، وسائق العربة. يوافق جون روث على اصطحابهما معه وإنقاذهما من العاصفة الثلجية، ثم يصلون إلى متجر ميني للاستراحة لحين انتهاء العاصفة الثلجية في منطقة وايومينغ.

يتم استقبالهم في المتجر من قبل ثلاثة أشخاص هم بوب المكسيكي وأوزفالدو موبري وجو غيج، ويشعر روث أن تواجد الأشخاص الثلاثة في الحانة في هذا التوقيت مريب، وبأن هناك مخططًا لتهريب ديزي دمرغيو، لذلك يقوم روث بالتعاون مع الرائد ماركوس بانتزاع أسلحتهم بالقوة. وتبدأ الأحداث الغامضة بالتكشف تباعًا حيث يتم قتل جون روث بواسطة السم، وتبدأ المعركة بين عصابة دمرغيو وحلفاء جون روث. لتنتهي بشنق ديزي دمرغيو في الحانة وموت الجميع باستثناء رجلين هما الرائد ماركوس ذو البشرة السوداء والشريف ذو البشرة البيضاء.

هل يمكن لجريمتين أن تصنعا عدالة؟

يطرح تارانتينو فكرته للعدالة على لسان أوزفالدو موبري على الشكل التالي: تخيلوا أن شخصًا ما ارتكب جريمة ولاذ بالفرار، وقام أقرباء القتيل بملاحقته، أمسكوا به، وبخوه، ضربوه، أطلقوا عليه الرصاص، قتلوه، ثم قاموا بسلخ جلده عن لحمه حتى سال الدم على أيديهم، تركوه وسط الطريق ورحلوا، عندها شعروا أن حقهم قد عاد إليهم، وأن انتقامهم شفى غليلهم. هذا ما يسمى بالعدالة المحدودة أو العدالة المنقوصة.

وتخيلوا سيناريو ثانيًا: الشرطة أمسكت بالمجرم، قامت بالتحقيق معه، ثم حولته إلى القضاء وحاكمته في المحكمة أمام القضاة وطبقًا للنصوص القانونية، وسمح له أن يدافع عن نفسه وأن يمثله محامي، وأصدر بحقه حكم بالإعدام حسب القانون وباسم الشعب.

وجاء الشخص المسؤول عن تنفيذ الإعدام، أوقفه على الكرسي، لف الحبل حول عنقه، أتى له بكوب من المياه ليشرب، ربط له يديه خلف ظهره، وسمح له أن يتمنى أمنيته الأخيرة قبل الموت، وبعد انتهاء كل المراسم قام رجل المشنقة الموكلة إليه مهمة الشنق بدفع الكرسي بقدمه فسقط المجرم المدان وبدأ بالانتفاض حتى لفظ أنفاسه الأخيرة، بينما كان رجل المشنقة ينظر يراقبه حتى يتأكد من إتمام مهمته. أنزل الجثة عن المشنقة وسلمها الى الأهل ليتم دفنها. هذا ما يسمى بالعدالة الكاملة أو العدالة التامة.

ما الفرق بين العدالتين؟

يطرح الفيلم أن الحالة الأولى مبنية على الشغف والحماسة، بينما الحالة الثانية مبنية على الحيادية، فالثأر في المثل الأول فيه لذة وشفاء غليل وتطهير نفسي عن الأشخاص الذين نفذوا عملية الانتقام والأخذ بالثأر من شخص قام بقتل قريبهم، بينما المثل الثاني قائم على الحيادية وعدم وجود أي صلة بين منفذ الإعدام وبين المحكوم عليه بالإعدام، وفي هذه الحالة الثانية تتحقق العدالة.

النقطة الجوهرية للتفريق بين الثأر وبين العدالة، بين شريعة الغابة التي تتضمن الحماسة والشعف، وبين شريعة القانون التي تتضمن غياب الشغف والحماسة والامتثال للحيادية، في هذا الفارق بالتحديد يكمن الفرق بين العدالة الكاملة والعدالة المنقوصة، أي بين عدالة تمت بمعايير ذاتية وعدالة تمت بمعايير بعيدة عن الذاتية.

يغدو انتقال ممارسة القوة من الأفراد إلى الجماعة تجسيدًا للانتقال من الثأر إلى العدل

إن رجل المشنقة جون روث لم يكن يقوم بقتل المجرمين بنفسه، بل كان يقوم بتسليمهم إلى العدالة التي تعني حكم الجماعة على الفرد، وهكذا فإن السلطة التي تمنح للأفراد تتحول إلى همجية، وإلى ثأر وثأر مضاد، فالعدالة التامة أساسها أن تحكم باسم الجماعة وبذلك تمنع عمليات الثأر الشخصية.

اقرأ/ي أيضًا: فيلم Newness: ماذا يعني الحب المعاصر؟

من هنا، تبدو النهاية أوضح حيث إن تنفيذ العدالة يجب أن تشارك فيه جميع المكونات العرقية من السود والبيض على حد سواء، وتجلى ذلك في مشهد شنق ديزي دمرغيو من قبل الرائد ماركوس ممثل العرق الأسود والشريف ممثل العرق الأبيض، وهكذا يكون الاتحاد وتتجلى المساواة، وتمت عملية الشنق وفق القانون باعتبار شريف بلدة ريد روك هو ممثل القانون باسم الشعب. هكذا يختتم تارانتينو فيلمه بانتقال ممارسة القوة من الأفراد باعتبارها ثأرًا إلى الجماعة باعتبارها عدلًا إذا ما طبقت باسم كل الشعب.

 

اقرأ/ي أيضًا:

لارس فون ترير.. شاشة العُقد الجنسية

فيلم "احتراق".. هاروكي موراكامي في رؤية كوريّة