23-نوفمبر-2018

من الفيلم

يُمكن القول إنّ الشريط السينمائيّ المعنون بـGun City عام 2018، للمخرج الإسباني داني دي لا توري، يتجاوز كونه شريطًا يُحاول وضع مقاربة جديدة للحرب الأهلية الإسبانية. أو، تناول الحرب نفسها من زاويةٍ مختلفة تعتمد على كشف المستور والمخبوء، وإعطاء كلّ ذي حقٍّ حقّه. يتجاوز فيلم Gun City ما ذُكر عند المشاهد العربيّ فقط، ذلك أنّهُ من الممكن إسقاط الأحداث، أو الفكرة فقط، على ما يُعاش عربيًا في يومنا هذا. ما معناهُ أنّ الشريط لا يبتعد، من عدة جهات، عن النزاعات الشخصية للمواطن العربيّ المُحتج والرافض للواقع الحاصل عربيًا، والذي وجد نفسه، حين خرج إلى الشوارع مُطالبًا بما يحقّ لهُ، وسط دوامةٍ من العنف والحروب المتتالية.

من الممكن إسقاط الأحداث في فيلم Gun City، أو الفكرة فقط، على ما يُعاش عربيًا في يومنا هذا

أوّل ما يبرز للمشاهد في فيلم Gun City هو مجتمع ملوّن بشتّى أطياف العنف، ومشهد وراء آخر، يتبيّن أنّ العنف سمة تدبغ سلوك الكثيرين في هذه المدينة، وتنتقل من فردٍ إلى آخر بصورةٍ سريعة، فتتحوّل برشلونة إلى مكان يجمع صنفين من البشر، الأوّل يُظهر عنفهُ علانيةً، دون خوفٍ من الآخرين إطلاقًا، لأنّ العنف جزءًا من الوظيفة التي يشتغلون على تأديتها. والصنف الثاني مُحمّل بعنفٍ ينمو ويتّسع بصورةٍ يومية بفعل التطوّرات المُخيفة من حوله، ولكنّه يُفضّل انتظار الفرصة المُناسبة لإظهار عنفه علانيةً، والانقضاض على الآخرين. وما يُلفت الانتباه أنّ بين هذين الصنفين، هناك أصنافٌ أخرى كثيرة أيضًا، إذ من الممكن أن يكون بين الصنف الأوّل فئات قليلة جدًا ترفض العنف، والأمر ينطبق أيضًا على الصنف الثاني. ومن الممكن أن يكون بين الصنف الثاني فئات تُمارس العنف بصورةٍ سرّية، دون انتظار ما ينتظره الآخرون، أي الفرصة المُلائمة. وهناك من يُمارس العنف ويبرّه بحفظ أمن الدولة والوطن ومُحاربة المتمرّدين. وهناك من يُمارسهُ ويبرّره بأنّه جزء من الثورة ضدّ السّلطة، والطريق الأسرع لتحقيق مطالب العمّال والنقابيين المُضربين عن العمل بفعل الحالة المعيشية القاسية، والمصاريف المرتفعة مُقابل أجورٍ قليلة لا تسدّ الرمق.

اقرأ/ي أيضًا: فيلم "قصة تحرير كوبا".. عالم ما بعد الديكتاتور

هذا العنف يبدأ منذ المشهد الأوّل من فيلم Gun City، حين يتعرّض قطار للجيش الإسبانيّ مُحمّلًا بالأسلحة إلى هجومٍ يُسفر عن سرقة حمولة الأسلحة، وقتل جميع من كان على متنه باستثناء السائق الذي يُفتَتح المشهد الثاني من الشريط بتعذيبه، أي بمشهدٍ آخر من العنف. يتلوهُ مشهد تفريق مظاهرةٍ سلمية لمجموعة من الفتيات المضربات عن العمل، ينتج عنه إصاباتٍ خطيرة تتعرّض لها بعض الفتيات، وحالة وفاةٍ واحدة. وما يتلو مشهد تفريق المظاهرة، يُبنى كلّه على أساس حادثة سرقة القطار في المشهد الأوّل، ذلك أنّ الحادثة بمثابة ضربة للأمن والاستقرار الوطنيّ الإسبانيّ، لا سيما وأنّ المتّهمين بسرقة القطار هم من العمّال المضربون عن العمل، والذين يُطلق عليهم لقب مُعارضو السلطة، ما معناه أنّ سرقة الأسلحة تهديد مُباشر للسلطة المُهدّدة بالزوال على يد المُعارضين لها. وزوال السلطة يعني دخول البلاد في حرب أهلية طويلة الأمد، وهو الأمر الذي حدث فعليًا في النهاية.

يسير فيلم Gun City بهذه الصورة؛ مُظاهرات واضرابات مُستمرّة للعمّال والنقابيين ضدّ السّلطة، يُقابلها عنف مُقابل من السلطة ضدّ العمّال، وتخوّف كبير الأوضاع الاقتصادية الناتجة عن تلك الإضرابات الأخذة بالاتّساع. وبين العمّال والسّلطة المتمثّلة بالحكومة التي تدير البلاد، تدخل فئة ثالثة على خطّ الأزمة الحاصلة، وتُحاول استغلال غياب الاستقرار، لتمرير وخدمة مصالحها الشخصية والمادّية والسياسية. هذه الفئة، كما سنعرف مع تواتر مشاهد وأحداث الشريط، مكوّنة من مجموعةٍ من ضبّاط الجيش، بقيادة الحاكم العسكريّ، وعددٍ من رجال الأعمال، ومجموعة من العمّال الذين يعملون سرًّا لصالح الأطراف السّابقة. والهدف: السيطرة على البلاد من خلال إدخالها بدوّامة من العنف تعجز الحكومة عن احتوائها، الأمر الذي يستعدي تدخّلًا سريعًا من الجيش الذي سوف يسيطر على البلاد بمجرّد النزول إلى الشوارع.

في فيلم Gun City، مجتمع ملوّن بشتّى أطياف العنف، ويتبيّن أنّ العنف سمة تدبغ سلوك الكثيرين في هذه المدينة

في ظلّ كلّ هذه التوتّرات والاضطّرابات التي تعيشها المدينة، والبلاد برمّتها، يظهر فجأةً ضابط يعمل لجهةٍ حكومية غامضة لا يظهر ما يدلّ في فيلم Gun City على هويتها، أو هوية الضابط نفسه. أنيبال أوريارتي "Luis Tosar" لا يبدو معنيًا بأيّ طرفٍ من الأطراف المتنازعة، ولا يهمّه العمل لحساب طرفٍ على حساب آخر، بقدر ما يظهرُ معنيًا بوقف ما يجرّ البلاد إلى الحرب الأهلية، أو كشف من يقودها إلى ذلك بصورةٍ أدق. لذلك، سنراهُ يعمل أوّلًا، بصفةٍ رسمية، عند مديرية الاستخبارات في مدينة برشلونة بصفته محقّقًا. وداخل المديرية، يكشف أوريارتي عن الفساد الذي ينخر المؤسّسة، والتعاون المشبوه بين أحد الضبّاط الكبار وبعض رجال الأعمال ذوي الأنشطة المشبوهة غير النظيفة. ومن المخابرات يتّجه الضابط مجهول الهوية للعمل واشيًا عند مالك أحد أكبر الأندية الليلية في المدينة ليكون مطّلعًا على تحركّات الأخير.

اقرأ/ي أيضًا: "ميموزا".. صوفية إسبانية على أرض مغربية

أخيرًا، يدخل ضمن نشاط العمّال والمعارضين للسلطة. وكلّ ذلك بهدف معرفة الجهة المسؤولة عن سرقة شحنة الأسلحة من القطار، تلك التي تشكّل عاملًا رئيسيًا في جرّ إسبانيا إلى الحرب الأهلية، وهو ما ينجح بمعرفته وكشف المتورّطين في العملية، دون أن ينجح في وقف سيل الدماء بفعل اشتعال الحرب.

اقرأ/ي أيضًا:

فيلم "غياب الحب".. صبي مفقود في عالم مسموم

فيلم "The Post".. الإعلام بين القيادة والانقياد