15-أبريل-2017

لقطة من فيلم Embrace of the Serpent

فيلم "احتضان الأفعى Embrace of the Serpent" هو فيلم كولومبي، صدر سنة 2015، من إخراج الكولومبي سيرو غيرا (مواليد 1981)، وهو فيلمه الروائي الطويل الثالث بعد فيلمي الظلال الشاردة (2004) ورحلة الريح (2009)، وكلاهما فيلمان نالا استقبالًا نقديًا جيدًا جدًا.

سيناريو فيلم "احتضان الأفعى" من كتابة المخرج أيضًا، ويستند إلى مذكرات عالم الأعراق/الإثنولوجي الألماني ثيودور كوخ غرونبيرغ، ومذكرات عالم النباتات الشعبية ريتشارد إيفانز شولتس، والتي توثق رحلات كل واحد منهما الاستكشافية والبحثية في غابات الأمازون، ووسط قبائلها البدائية. الفيلم مصور بالأبيض والأسود فقط، ويتكلم الممثلون فيه أكثر من سبع لغات، الأسبانية والكاتالونية والبرتغالية والألمانية والإنجليزية واللاتينية ولغات بدائية محلية!

يناقش فيلم "احتضان الأفعى" قضايا، على رأسها أثر الاستعمار الأوروبي على أمريكا الجنوبية، ومفهوم الدين والإيمان، ومفهوم الحضارة

تدور قصة فيلم "Embrace of the Serpent" دون أي حرق للأحداث في زمنين مختلفين يفصل بينهما أكثر من ثلاثة عقود، الزمن الأول بداية القرن العشرين، ونرى فيه العالم الألماني ثيودور برفقة ماندوكا أحد السكان المحليين، يقصدان المداوي الشعبي كاراماكاتي، طلبًا لمعالجة العالم المصاب بمرض -على الأرجح الملاريا- عجز كل معالجي الأمازون الشعبيين عن مداواته؛ كاراماكاتي أمازوني يعيش وحيدًا في الغابة بعد أن هجر قبيلته التي وصلها المستعمر الأسباني؛ رمز الشر بالنسبة له، لذلك يرفض معالجة تيودور الأبيض في البداية، لكنه يغير رأيه عندما يحدثه العالم الألماني عن أنه مر بقبيلة كاراماكاتي في رحلته، فيقرر كاراماكاتي معالجته مقابل أن يأخذه إلى قبيلته، ويحدثه أيضًا أن العلاج الفعلي لحالته هو نبتة ياكرونا التي لا تنمو إلا في أرض قبيلته، ولو أخذه إلى هناك سيستطيع معالجته تمامًا، ليبدأ الثلاثة سوية رحلة عبر نهر الأمازون، مارين سوية بمواقف ومحطات عدة.

اقرأ/ي أيضًا: فيلم "Going in Style".. هل يستحق المشاهدة؟

أما الزمن الثاني الذي يصوره فيلم "Embrace of the Serpent" فيبدأ بعد الزمن الأول بأكثر من ثلاثة عقود، عندما يقصد عالم النباتات الأمريكي إيفان المداوي كاراماكاتي، في ذات المكان الذي لقاه فيه ثيودور ومساعده ماندوكا أول مرة، ويسأله عن مدى صحة ما كتبه ثيودور في مذكراته، وهل نبات الياكرونا موجود فعلًا أم لا، ويسأله أن يدله على مكانه، لكن كاراماكاتي الذي كبر في السن لا يتذكر أي شيء عن أماكن تواجدها، فيقرر الاثنان رغم ذلك الذهاب في رحلة البحث عن النبتة عبر النهر على غير هدى. يشكل ما سبق أول مشهدين في الفيلم فقط، المشهدان التمهيديان للفيلم، بعد ذلك ينطلق الفيلم لتصوير تفاصيل الرحلتين.

يناقش الفيلم جملة من القضايا، على رأسها أثر الاستعمار الأوروبي على أمريكا الجنوبية، ومفهوم الدين والإيمان، ومفهوم الحضارة. ويقوم باستعراض أفكاره من خلال تقنيتين سرديتين رئيسيتين: أولى هي تقديم الفيلم كفيلم طريق Road Movie، على غرار أفلام مثل "باريس، تكساس Paris, Texas" لفيم فيندرز، و"الطريق La Strada" لفيديريكو فليني، و"التوت البري Wild Strawberries" لإنغمار برغمان.

ففيلم "Embrace of the Serpent" بأكمله ما هو إلا محطات يمر بها أبطاله على طول طريقهم في نهر الأمازون، كل محطة تجعلهم يتعرضون لموقف ما، يلعب دورًا كبيرًا في تغيير أفكارهم وقناعاتهم أحيانًا، ويجعلهم يتعرفون عن كثب أثر المستعمر الأوروبي وحضارته على غابات الأمازون وقبائلها البدائية. كان خيار جعل الفيلم فيلم طريق خيارًا موفقًا جدًا، ومنح الفيلم قدرات رهيبة لاستعراض أفكاره، ورؤية أوجه مختلفة لصراع الحضارة الأوروبية مع البدائية الأمازونية، وأيضًا يمنحنا الفيلم فرصة لأخذنا في رحلة ساحرة عبر الطبيعة الأمازونية، بمرافقة الموسيقى الأمازونية الفلكلورية بآلاتها البدائية المميزة.

أما التقنية الثانية التي يستخدمها الفيلم، فهي تقنية الثنائيات، ثنائية الإنسان الأبيض المتحضر والإنسان الأمازوني البدائي، العالم ثيودور والعالم إيفان، الأمازوني الخاضع للأبيض والأمازوني الرافض للأبيض، كاراماكاتي الشاب وكاراماكاتي العجوز، الأمازون أول القرن العشرين والأمازون منتصف القرن العشرين.

إن سيناريو الفيلم العظيم يجعلنا في بعض الأحيان نمر في ذات الأماكن مرتين، مرة في رحلة ثيودور ومرة بعد سنوات في رحلة إيفان، ليجعلنا وجهًا لوجه مع مآلات الاستعمار. تمنحنا هذه الثنائيات المكثفة التي يمتلئ بها الفيلم حافزًا نحن المشاهدين لتحليل الفيلم وقراءته بعمق، وتمنح مَشَاهِد الفيلم القدرة على قول أكثر بكثير مما تُظهر.

يعتبر فيلم "احتضان الأفعى" أول فيلم كولومبي يترشح لجائزة أوسكار أفضل فيلم أجنبي

تم تصوير فيلم "Embrace of the Serpent" بالأبيض والأسود، وللأمانة فإنه أفضل استخدام أشاهده في فيلم في عصر السينما الملونة للتصوير الأبيض والأسود، ويتفوق على فيلم فرانتز Frantz الفرنسي، الذي استخدم العام الماضي هذا التصوير بطريقة ذكية أيضًا.

عادة ما يكون التصوير الأبيض والأسود خيارًا نوستالجيًا من المخرجين، وأحيانًا خيارًا للتعبير عن حقبة النصف الأول من القرن العشرين؛ لكن تم اللجوء إلى هذا الخيار في فيلم "احتضان الأفعى"، لمنح رحلتي ثيودور وإيفان مع كاراماكاتي عبر الأمازون جوًا سحريًا سرياليا، وكأن القصة قديمة جدًا نقرأها في سِفْرٍ لنبي منسي، أو فصل جديد من رحلة أوديسيوس في الأوديسة.

أيضًا ليجعلنا نركز على أبطال الفيلم ورحلتهم، وليس الطبيعة الأمازونية بزرقة نهرها وخضرة شجرها، فالمهم هنا الإنسان ولا يجب أن تزيغ عينانا عنه بتلك الطبيعة الساحرة، بل ربما أكاد أكون متطرفًا في تحليلي لو قلت أيضًا إن التصوير بالأبيض والأسود محاولة لنفي الجمال الرومانسي عن الطبيعة الأمازونية، وتقديمها كطبيعة قاسية ساهمت في تشكيل ثقافة القبائل الأمازونية، كما ساهم الدين والثورة الصناعية ومن قبلها الزراعية في تشكيل ثقافة وحضارة الإنسان الأبيض.

اقرأ/ي أيضًا: فيلم "الأبرياء".. صناديق الأديرة البولندية السوداء

يمتلئ الفيلم بالمشاهد الأيقونية التي تعلق في الذاكرة؛ مشهد الدير، مشهد عبد المطاط، مشهد البوصلة، وغير ذلك من المشاهد التي تمت كتابتها وإخراجها بشكل سيجعلها مع الزمن من المشاهد الأيقونية في تاريخ السينما.

تتميز أيضًا شخصية المداوي كاراماكاتي بكتابة مميزة ومقنعة؛ فهو في الفيلم لا يظهر كإنسان بدائي متخلف، ولا كإنسان فطري حكيم بشكل رومانسية، بل هو إنسان ذكي جدًا، ولا تقل قدراته العقلية عن قدرات العالمين ثيودور وإيفان، بل ويظهر ندًا لهما، وتشغله ذات القضايا الوجودية التي تشغلهم، لكن الفرق أن بيئته وطبيعة حياته منحته أجوبة مختلفة لتلك الأسئلة؛ هذا الرسم الواقعي للشخصية البدائية المجرد من الرومانسية أشاهده لأول مرة في فيلم، وهي نقطة أخرى تحسب للفيلم ولمخرجه سيرو غيرا.

يمتلئ فيلم "احتضان الأفعى" بالمشاهد الأيقونية التي تم كتابتها وإخراجها بشكل سيجعلها من المشاهد الأيقونية في تاريخ السينما

نادرًا ما يبهرني مخرج من عمل واحد أشاهده له، ويجعلني أترقب بشوق أي جديد له، لكن ما فعله سيرو غيرا في فيلمه "احتضان الأفعى" شيء ساحر وسالب للعقل والقلب، عمل خارق الجمال، بدءًا من دمجه لمذكرات عالمين لم يلتقيا في سيناريو واحد بديع، انتهاءً باختياراته الموسيقية، مرورًا بأفكار الفيلم التي يناقشها وتعددها، ووجهات النظر التي يطرحها كأجوبة، وتقنيات السرد القائمة على مفهوم فيلم الطريق والثنائيات، والرمزيات –رمزية رحلة البحث والسفر ورمزية نبتة الياكرونا ورمزية عنوان الفيلم-، والرسم الواقعي للشخصية البدائية، والمشاهد الأيقونية متقنة الإخراج، واستخدام لغة شبه منقرضة في معظم حوارات الفيلم.

يعتبر فيلم "احتضان الأفعى" (Embrace of the Serpent) أول فيلم كولومبي يترشح لجائزة أوسكار عن أفضل فيلم أجنبي، وقد فاز بجائزة "فن السينما" في أسبوعي المخرجين في مهرجان كان، وتواجد الفيلم في قوائم أفضل عشرة أفلام في السنة عند كل من النقاد مارك كيرمود Mark Kermode وستيفين هولدن Stephen Holden وراندي مايرز Randy Myers وسيمون أبرامز Simon Abrams وبراين فورمو Brian Formo.

ويرى أكثر من ناقد أن الفيلم متأثر جدًا بالرواية الشهيرة "قلب الظلام" للكاتب الإنجليزي البولندي جوزيف كونراد، وبفيلم :القيامة الآن "Apocalypse Now" للمخرج العظيم فرانسيس فورد كوبولا، وهما عملان لم يتسنّ لي الاطلاع عليهما بعد حتى الآن.

 

اقرأ/ي أيضًا:
اليابان في السينما الأمريكية.. وحشية وندم متبادلان
7 من أفضل أفلام سرقات البنوك