29-ديسمبر-2021

من الفيلم (IMDB)

ما يعنيني تبيّنه من فيلم "لا تنظر للأعلى" (Don’t Look Up) للمخرج الأمريكي آدم ماكاي، ليس قصته المبالغ في مآلاتها قليلًا أو كثيرًا، ولا الإسراف في التمثيل والتهريج الذي يلجأ إليه معظم الممثلين، باستثناء ليوناردو دي كابريو، وجنيفر لورانس.

الخلاصة المهمة التي يذهب إليها فيلم "Don’t Look Up" هي أن المسارات التي يعيشها البشر، البشر المراقَبون تحديدًا، هي مسارات مرسومة سلفًا

أكثر ما يعنيني في هذا الفيلم هو النبوءتان اللتان أطلقهما رئيس شركة "Bash" الذي يؤدي دوره Mark Rylance. لقد تنبأ بأن يموت دي كابريو وحيدًا، ولم تصح نبوءته، رغم أنها كانت على قاب قوس أو أدنى من تاريخ إطلاقها. وتنبأ بأن يأكل كائن غير معروف بالنسبة للبشر ميريل ستريب، وصحت نبوءته مع أنها لم تحدث على الأرض، ووقعت على مسافة أكثر من عشرين ألف عام من إطلاقها.

اقرأ/ي أيضًا: في سابقة منذ بدء الجائحة.. إيرادات فيلم "سبايدر مان" تتخطى مليار دولار

وها أنا حين أريد الكتابة عن هاتين النبوءتين أجد نفسي مضطرًا للمبالغة أيضًا. حسنًا. الفيلم نفسه محفز على هذا النمط من المبالغة، وهي مبالغة يهواها الكتّاب غالبًا. فلا مانع يمنعني من المتابعة على النسق نفسه.

أجزم، وكل جزمٍ في هذا المقام يقع في باب المبالغة حكمًا، أن عجز النبوءة الأولى عن التحقق مردّه إلى كون دي كابريو الذي انجرف، لزمنٍ لا يستهان فيه من أزمان الفيلم، نحو العالم الذي تديره مؤسسات علمية – تجارية وتقرر له مستقبله، وعاش ما تمليه عليه هذه المؤسسات من سبل للعيش والسعي والتعبير؛ عرّض نفسه ومستقبله لأن يكونا معاينين ومتوقعين. لكنه لم يلبث بعد حين أن خرج عن سوية هذا العالم ليعود إلى كنفه العائلي الريفي إلى حدٍ ما، (ميشيغان في مقابل واشنطن ونيويورك)، ويخرج عن السوية المفروضة على كل قاطني هذا العالم، ما عدا خدمهم وعبيدهم، وبالتالي بات مصيره معتمدًا على حسابات لا تملك هذه المؤسسات المتحكمة في مسار العالم معطياتها.

والحال، مات الرجل بين أبنائه وبالقرب من زوجته وأصدقائه. في حين أن السيدة الرئيسة جاني أورليان (ميريل ستريب) لم تخرج قيد طرفة عين عن المسار الذي رسمته لها هذه المؤسسات. وحين انفجرت الأرض وتفتتت بمن فيها، كانت لا تزال تعتمد بشكل كلي على هذه المؤسسات، بوصفها تملك التقنية الكافية للتحكم بالعالم ومحيطه وتتنطح للادعاء بقدرتها على التحكم بالكون. والحال، يصبح منطقيًا أن يأكلها كائن غير أرضي بعد عشرين ألف عام ما دامت كل معطياتها ومعلوماتها مخزونة في العقول الاصطناعية، وقابلة لأن تحللها على نحوٍ يمكنها معه التقرير بكل دقائق مصيرها وثوانيه.

الخلاصة المهمة التي يذهب إليها الفيلم، وربما من غير القصد الذي أحاول جرّه إليه، هي أن المسارات التي يعيشها البشر، البشر المراقَبون تحديدًا، هي مسارات مرسومة سلفًا. بمعنى أن دواء الكوليسترول يجب أن يؤخذ في الوقت الذي يحدده الطبيب، وأن هذا الدواء قد يؤدي إلى أعراض وأمراض تصيب البشر في وقت ما بعد المداومة عليه، ويعرف الطب نفسه كيف يتعامل معها. فلو أن مريضًا لم يأخذ دواءه، سيعجز الطب عن التنبؤ بمصيره، ومرضه المقبل، وعلى الأرجح سيموت في لحظة ما غير متوقعة ورغم أنف الطب نفسه.

العلم، حتى هذا الماثل إلى زوال سلطته، كما هي حال زملاء دي كابريو الأكاديميين في الفيلم، يعتمد على تنميط البشر والكائنات ضمن أنماط وفئات يقرر لها غذاءها وعدد ساعات نشاطها، ووقت نومها، ويراقب أمزجتها بدقة، فلا يسمح لها بالتطرف قيد أنملة، ولديه كل الوسائل والأدوات ليعيد الشارد منها إلى القطيع. وهو بذلك يضمن للناس، كل الناس، حماية ما، يمكن تقدير سنواتها وزمنها، بحسب الأدوات والوسائل التي طورها بنفسه.

يعتمد العلم في الفيلم على تنميط البشر والكائنات ضمن أنماط وفئات يقرر لها غذاءها وعدد ساعات نشاطها ووقت نومها ويراقب أمزجتها بدقة

هكذا، يحكم على الجيل الذي سبق جيلي قليلًا بالابتعاد عن تناول البيض، وتجنب احتساء القهوة، ليعود العلم بعد وقت غير قصير، ليؤكد أن تناول البيض واحتساء القهوة مفيدان للصحة العامة. والحال، فلو صح ما يقوله العلم اليوم، يكون قد سرق من أعمار الجيل الذي سبقني مليارات الأعوام دفعة واحدة. فقط لأنه لم يكن على "علم" يؤهله المحافظة على هذه السنوات المهدورة.  

اقرأ/ي أيضًا: فيلم "The Lost Daughter" قريبًا على نتفليكس.. اﻷمومة ومشاغلها

أما العلم المتحكم بشؤوننا اليوم، وهو العلم الذي بات مرتبطًا بالإنتاج التجاري والربحي، فإنه يذهب أبعد من سلفه في الاعتداء على سنواتنا. ذلك أنه ليتسيّد وينتشر ويشتد عوده، ربحا فائضًا وثروات لا يمكن حصرها، يلجأ إلى حذف من لا يستطيعون امتلاك المهارات اللازمة للخضوع الطوعي للمراقبة من حساباته. فكل من لا يجيد استخدام أدواته، أو ينصرف عن استخدامها، يصبح منذ اللحظة الأولى التي تختفي فيها معلوماته عن شاشات حواسيبه غير موجود. ولن يطول الوقت به حتى يصبح ممنوعًا من ممارسة أبسط وظائف جسمه، بدعوى أنه قد يكون معديًا، أو مريضًا، في مجتمع يغذ سيره باتجاه إدانة المرضى، لأنهم مرضى وليس لأي سبب آخر.    

 

اقرأ/ي أيضًا:

فيلم "Tesla"... محاولة طموحة لمقاربة مخيلة عصيّة

فيلم "تحت فراء الذئب".. الوحدة التي تُعيد الإنسان كائنًا بدائيًا