21-أكتوبر-2019

من الفيلم (IMDB)

يتّخذ المخرج الأمريكيّ دانيال ميناهان (1962) من التحوّل والحداثة وتغيير معالم مكانٍ مُحدّد، بحيث لا يعود كما كان، مدخلًا إلى قراءة واقع بيئة مُصابة بلعنة الخراب والموت والفوضى.

لا يخرج ميناهان في فيلم "Deadwood" عن الإطار الزماني أو المكاني اللذين دارت ضمنهما سابقًا أحداث المسلسل الذي أُخذ عنه

في جديده غير الجديد تمامًا، "Deadwood" المأخوذ أساسًا، أو الذي يُعدّ امتدادًا للمسلسل التلفزيوني الذي يحمل العنوان نفسه، أي "Deadwood" الذي بُثّ بين عامَيّ 2004/2006، موزّعًا على ثلاثة مواسم توقّف بعدها فجأة ودون تبريرات؛ لا يخرج ميناهان عن الإطار الزماني أو المكاني اللذين دارت ضمنهما سابقًا أحداث المسلسل الذي أنتجته (HBO). بيد أنّه، في المقابل، لا يبدي التزامًا صريحًا بنصّ الحكاية السابقة. أو لا يبدأ تمامًا، بمعنى أدق، من حيث انتهت الحلقة الأخيرة من الموسم الثالث والأخير. بغضّ النظر عن الومضات المتكرّرة التي تستعيد أحداثًا قديمة رأيناها سابقًا، وتحضر الآن هنا بوصفها ذكريات مهمّتها الرئيسية تقديم تفسيراتٍ لما يحدث أمامنا، أو لا سيحدث.

اقرأ/ي أيضًا: "الآلهة الأمريكية": لماذا تكتسب قصة عن الآلهة القديمة دلالة في الوقت الحاضر؟

"Deadwood" الذي يعود بعد نحو 13 عامًا على توقّفه، وبشكله الجديد، أي باعتباره فيلمًا سينمائيًا (مع تحفّظ البعض على الوصف الأخير) لا مسلسلًا تلفزيونيًا؛ يبدو الآن أقرب إلى مُحاولة سينمائية تسعى، بشكلٍ أو بآخر، إلى التوغّل في أعماق حالة عامّة لمكانٍ يُعاني وحشية مُفرطة، وفوضى عارمة تُنسب إلى غياب القانون الذي يُحاول، قلّة قليلة من سكّان البلدة/ المستعمرة فرضه وتطبيقه على مجموعة أشخاص يُحاولون، مستفيدين ممّا يملكونه من مالٍ وسلاح وقدرة على سفك الدماء وترهيب الآخرين، أن يكونوا نظامًا قائمًا بنفسه، يُطيح بآخر بسيط ويتولّى تسيير حيوات سكّان المستعمرة الصغيرة كيفما يشاؤون.

المقصود بالمستعمرة بلدة صغيرة اعتاد سكّانها وصفها بهذا الوصف، كونها نشأت على أساسه، ضمن ما يُعرف بولاية "داكوتا الجنوبية" التي انضمّت، مع افتتاح الشريط، إلى الولايات المتحدّة الأمريكية. ويسعى الفيلم إلى تفكيك واقع هذه المستعمرة، أو المكان الذي شهد في زمنٍ مضى معارك دامية، ومنافساتٍ شرسة بين طرفين جعلت من المستعمرة تبدو وكأنّها مشيّدة على جثث الآخرين. في واحدٍ من مشاهد الشريط، تقف امرأة ثملة وسط حانة لتتحدّث عن صديقها الذي قُتل داخلها، ودُفنت جثّته أسفلها، موصيةً روّاد الحانة بدفنها جواره، أسفلها، أسفل الحانة.

لأجل تفكيك واقع المستعمرة، بزمنيها الحاضر والماضي، سيلجئ دانيال ميناهان إلى مقاربة العيش اليومي داخلها كعتبة أولى للتوغّل والدخول في واقعها، مستندًا إلى سخرية مريرة، ونوع من الكوميديا/ الفكاهة السوداء لالتقاط نبض مستعمرة تعيش على وقع ذكريات قاسية لا تنفكّ تطرقُ أبوابها بين الحين والآخر، قبل أن تفتحها على أقصاها أخيرًا حين يعود من كان مسؤولًا، عبر جرائمه، عن نشأتها عند سكّان المستعمرة الذين وجدوا أنفسهم من جديد في مواجهة ذكرياتٍ بذلوا جهدًا مضنيًا لأجل نسيانها. وطنّوا، لبعض الوقت، أنّهم استطاعوا، أخيرًا، أن يُبعدوها عن مسارات حيواتهم اليومية، ومواصلة الحياة دونها.

فيلم "Deadwood"، في جزءٍ منه، شهادة بصرية عن مدى تأثير التحوّل الاجتماعي والاقتصادي على بعض البشر

التركيبة السينمائية لـ"Deadwood" الفيلم لا تختلف عن تركيبة التي كانت قائمةً في نسخته التلفزيونية، والتغيير الوحيد كما ذكرنا هو في الأحداث فقط، والتي سُردت بأسلوبٍ كافٍ ليكون الشريط نفسه خاتمةً للمسلسل؛ جمعٌ من البشر يعيشون ضمن مستعمرة صغيرة أقرب إلى مخيم بدأت مساحته تتسع مع الوقت ليتحوّل إلى بلدةٍ صغيرة تتوسّط غابة ضخمة. ويعيش هؤلاء البشر حيواتهم بطريقة طبيعية جدًا، إلى حين إعلان الولاية التي ينتمون لها، داكوتا، انضمامها إلى الولايات المتّحدة الأمريكية. بحفلٍ أُقيم لأجل هذه المناسبة، افتُتح الفيلم على أجواء عادية، ومشاهد يظهر فيها شخص يُدعى السيناتور جورج هيرست يُلقي فيها التحية على الجموع من حوله، قبل أن تظهر امرأة من على إحدى الشرفات لتذكّره بماضيه. سنعرف أنّ السيناتور العائد لتوّه ليجعل المستعمرة، بحسب قوله، تواكب الحداثة من خلال مدّها بشبكة هواتف، هو المسؤول الأول والوحيد عمّا عاشته المستعمرة سابقًا من خراب وفوضى وسفكٍ للدماء. سنعرف أيضًا أنّ المرأة المستمرّة في سرد أفعال السيناتور، حاولت سابقًا قتله بعد قتله لصديقها، وأنّ صاحب الحانة الوحيدة في البلدة أنقذها منه بقتله لامرأةٍ أخرى على أنّها هي. وبين محاولة السيناتور الثأر من المرأة بعد أن اكتشف أنّها حيّة، ومحاولات الأخيرة الهرب منه، ستكون البلدة على موعدٍ مع جولةٍ جديدة من الخراب والفوضى وسفك الدماء.

اقرأ/ي أيضًا: الذكاء الاصطناعي vs الذكاء البشري

لكن، بعيداً عن هذا كلّه، فإن "Deadwood"، في جزءٍ منه، شهادة بصرية عن مدى تأثير التحوّل من واقعٍ إلى آخر، على بعض البشر. ذلك أنّ وصول الأعمدة الخشبية والأسلاك لمدّ شبكة الهاتف استعدادًا لبدء زمنٍ آخر يختلف عمّا سبقه؛ سيكون في الواقع بدايةً لتراجيديا البلدة التي ستتغير معالمها بحيث لن تعود كما كانت إطلاقًا. وفي الوقت الذي يبدو فيه سكّان البلدة منشغلين بالسيناتور والمرأة التي حاولت في زمنٍ مضى قتله، وما سيعقب عودته واستقراره في البلدة؛ سنرى رجلًا عجوزًا لن يحتاج إلى وقتٍ طويل لاستيعاب ما يحدث، وفهم أن عودة السيناتور ليست بدافع الثأر أو الانتقام، أو لأجل انضمام الولاية إلى الولايات المتحدّة، بل لأجل بدءٍ زمنٍ جديد قرّر ألّا ينضم إليه. هكذا، سيدفع العجوز حياته ثمن رفضه هذا، عدا عن رفضه أيضًا لبيع أرضه للسيناتور الذي سيزرع فيها أعمدة أسلاك هواتف الزمن الجديد.

اقرأ/ي أيضًا:

Once Upon A Time in Hollywood.. حنين تارانتينو إلى زمن ضائع

فيلم "The Aftermath".. مصائر ما بعد الحرب