17-مارس-2019

من الفيلم (IMDB)

تُحاول أنطونيا بريكو (كريستين دي بروين) إيجاد منفذٍ لخلاصٍ من شأنه أن يُرمِّمَ عطبها الداخليّ، ويطوي صفحاتٍ من حياةٍ مضت، فتنشغل باللحظة الراهنة، وما تصل إليه، دون الرجوع إلى ما تجاوزتهُ قبلًا، أو الالتفات إلى الخلف. وأيضًا، دون الانشغال بالتفكير بالغد. تبدو إذًا معنيةً باليوم، الآن، وكلّ ما يحدث لتوّه، باعتباره إن انتهى بشكلٍ صحيح، فمن الممكن أن يؤسِّسَ لغدٍ مشابه لهُ، فينتهي هو الآخر بشكلٍ صحيح.

في فيلم "De Dirigent"، تسعى أنطونيا بريكو إلى أن تُصبح أوّل امرأة تقود أوركسترا، ضاربةً بعرض الحائط احتكار الرجال للمهنة

لذا، تمضي بريكو دون أن تُعطي بالًا لرغباتٍ وإغراءاتٍ تعكّر وتشوّش وتعوّق مما تسعى إليه، أي أن تكون أوّل امرأةٍ تقود فرقةً موسيقية، أوركسترا. ولا تريد من ذلك أن تتخلّص من حياة الفقر، أو أن تنتقل إلى الثراء، وتختلط بالطبقات المخملية، بل أن تؤسِّسَ لنفسها كامرأة حضورًا موسيقيًا يُجبر الناس على الانتباه إليه، والاعتراف بقدرتها على قيادة أوركسترا، لا أن تُعامل كـ"ورق جدران"، كما تُردِّد بعد كلّ موقفٍ تتعرّض فيه للتجاهل.

اقرأ/ي أيضًا: فيلم "السقوط".. تأريخ بصري لأيام الرايخ الثالث الأخيرة

لنعتبر هذا مدخلًا أو اختصارًا لشريط المخرجة الهولندية ماريا بيترز "De Dirigent" (إنتاج 2018)، علمًا بأنّ الشريط يبدو غير قابلٍ لأن يُختصر أو يُختزل، لا لكثرة أحداثه فقط، وإنّما لتشعّب التفاصيل الكثيرة، وإعادة إنتاج حكاية جديدة من حكايةٍ سابقة، ومن بعد ذلك، يجري ربط كلّ الحكايات ببعضها البعض في آن واحد.

الفكرة الأساس إذًا للشريط أنّ أنطونيا بريكو تسعى لأن تُصبح أوّل امرأة تقود أوركسترا، ضاربةً بعرض الحائط احتكار الرجال لمهنةٍ كهذه. نعرف أنّ الشريط من خلال فكرةٍ كهذه قد توغّل في منطقةٍ خصبة لإثارة النقاش والجدال حول المساواة بين الرجل والمرأة، وبالتالي الذهاب بالفيلم نحو مكانٍ لا يبدو محبّبًا. ولكنّ ماريا بيترز، ككاتبة ومخرجة للشريط، تطرح هذه المسألة دون استسهال أو مُباشرة، بل وتتعامل معها كأنّها غير حاضرة في سياق الحكاية، بحيث تكون الأخيرة مركز الاهتمام، لا الفكرة أو القضية. ولذلك، تمدُّ بيترز فيلمها بتفاصيل تضمن من خلالها ألّا يدخل سريعًا ضمن أي تصنيفٍ يُقيّده في زاويةٍ محدّدة، فهو يعرض التمييز بين الرجل والمرأة، ولكنّ ذلك لا يتطوّر إلى مستوى الهجوم على الرجال، أو إثارة قضايا كالمساواة وغيرها. ومن الضروري أيضًا التعامل مع الشريط باعتبار أنّ أحداثه تجري أواخر عشرينات القرن الماضي.

كجزءٍ مما سبق، وانطلاقًا من سعي ماريا بيترز لتقديم شريطٍ سينمائيّ قبل أي شيء آخر، نلمسُ الاعتناء الواضح والصريح بكلّ العناصر التي توفّر النجاح عادةً لشريطٍ سينمائي. ثمّة التزام كذلك بأولوية حماية السياق البصري، ومحاولات جادّة تسعى لإسقاط أي مقولاتٍ جاهزة من الممكن أن تركّب أو تُسقط على الشريط. هكذا، تبدو العناوين العريضة كـالمساواة والتمييز مجرّد خلفية تقد تحرّك بطلة العمل في مكانٍ ما، ولبعض الوقت، ولكنّها لا تفعل أكثر من ذلك. بعبارةٍ أخرى، تبدو الموسيقى قضية الفيلم الأولى، والعنصر المسؤول عن سلوك وحركات أنطونيا بريكو، وطريقة تعاطيها مع محيطها، وبعض الشخصيات الأخرى.

تنفتح عدسة المخرجة الهولندية على قاعة موسيقية كبيرة، ولكنّ الكاميرا تُلاحق فتاةً مذهولةً بمشهد دخول قائد الأوركسترا كإعلانٍ عن بدء الأمسية الموسيقية. تُثّبت بيترز كاميرتها على الفتاة التي تتسمّر في مكانها لدقائق قبل أن تُغادر القاعة لأنّ هذا ما عليها فعلهُ كموظفةٍ فيها، لا لأنّها تُريد ذلك. من القاعة تلحقُ الكاميرا بالفتاة إلى حمّامات الرجال، وبعصها الطعام، تتماهى مع دور قائد الأوركسترا كأنّها هو، قبل أن تخرج عائدةً إلى القاعة، ثمّ إلى الشارع، مطرودةً من العمل هذه المرّة.

يُحدّد هذ المشهد للمتفرّج، بأحداثه المكثّفة، ما تسعى إليه أنطونيا، كما يُبيّن لهُ الصعوبات التي تعترض طريقها في سبيل أن تحقّق كلّ مخطَّطاتِها، دون أن تكون صعوباتٍ عادية، أو من السهل تجاوزها. فأنطونيا، مشهدًا وراء آخر، تبدو موزّعة أو مُقسّمةً على عدّة جهات وأماكن، كذاتها، وعائلتها، والحب، والعمل، والموسيقى، وعليها أن توازن بين كلّ ذلك في وقت قصير، وضمن إمكانيات محدودة. فمن الممكن أن تستطيع التخلّي أو التنكّر لمشاعر الحب التي تتلبّسها فجأة وتجمعها مع فرانك تومسن "بنيامين وينرايت"، أحد أبناء الطبقة الراقية، وأبرز من يدير الحفلات الموسيقية في نيويورك، ولكنّها دون شك لا تستطيع التخلّي عن عملها باعتباره ما يضمن استقرار علاقتها بوالدتها أوّلًا، والعامل الأهم والأبرز في مسيرتها نحو تحقيق حلمها. وقد لا تجد كذلك ضررًا في إهمال ذاتها، والظهور بشكلٍ غير لائق يُقلّل من أنوثتها قليلًا، ولكنّها لن تستطيع، مبدئيًا، أن تجد وقتًا كافيًا توزّعه على الموسيقى والعائلة والعمل. ويمكن لهذه الأشياء التي تتقاسم أنطونيا أن تكون حكاياتٍ وقصصًا مستقلّة وقائمةً بذاتها داخل الشريط.

أنطونيا التي تبدو يوميّاتها مُثقلة بالقلق والخوف تصطدم بحقيقةٍ تقتطعُ جزءًا من وقتها واهتمامها، بل وتضاعف من قلقها أيضًا، ذلك أنّ الخلاف الذي بدا بسيطًا، هادئًا، وقابلًا للاحتواء في بداية الشريط بينها وبين والدتها، قد تفجّر أخيرًا مُحدثًا حفرةً عميقة داخل أنطونيا، تحتشد بالألم والأسى. تعرف حينها أنّ العائلة التي من المفترض أن تكون عائلتها، قد تبنّتها بعد أن عرضتها والدتها للمزايدة في إعلان بجريدة احتفظت العائلة بنسخةٍ منها. تُطرد أنطونيا من المنزل إثر ذلك، ولتجاوز الأزمة، تنشغلُ مرّةً أخرى بمحاولات تحقيق ما تطمح إليه، مصرّة في الوقت ذاته على البحث وإيجاد والدتها، هولندية الأصل.

تعرف بطلة فيلم "De Dirigent" أنّ عائلتها قد تبنّتها بعد أن عرضتها والدتها للمزايدة في إعلان بجريدة

في هذا الوقت، تنضج قصة الحب بين أنطونيا بريكو وفرانك تومسن الذي طردها في بداية الشريط بعد أن اقتحمت القاعة حاملةً كرسيًا خشبيًا منتقلًا وضعتهُ بجوار مقاعد الصف الأوّل لتشاهد لا الأمسية، وإنّما حركات يد قائد الأوركسترا. المشهد ذاته سوف يتكرّر بعد عدّة سنوات، ولكن مع تغيّرات شبه جذرية، وتبدّلاتٍ في الأدوار: القاعة نفسها، ولكنّ الأوركسترا التي تُحيي الأمسية نسائية بالكامل، تقودها أنطونيا بنفسها بعد أن أثبتت قدرتها على ذلك، بينما يحمل فرانك كرسيًا متنقّلًا يضعهُ بالقرب من مسرح القاعة، ليُشاهد أنطونيا التي رفضت أن تتزوّجه لأنّ ذلك سينهي أحلامها، دون أن تنتهي قصّة الحب التي جمعتهما.

اقرأ/ي أيضًا: 25 معلومة لا تعرفها عن فيلم "العرّاب"

عناوين عريضة أو أحداث رئيسية تنطوي على تفاصيل كثيرة متشعّبة مقتبسة أساسًا من قصّة واقعية. ويمكن القول إنّ الشريط مزيج قصص؛ قصص رئيسية وأخرى ثانوية تدور حول تعاطي المجتمع ككل مع المرأة الموسيقية، أو مع فكرة أن تعتلي امرأة خشبة مسرح، أو أن تقود مجموعة عازفين رجال، كأنّ الأمر إهانة لهم. وإلى جوار كلّ ذلك، تظلّ بطلة العمل الذي يعتبر دورها هذا أوّل دور مهّم تؤديّه، قصّة أخرى على المتفرّج اكتشافها بنفسه.

 

اقرأ/ي أيضًا:

فيلم The Green Mile: مداواة الشر بالشر

فيلم "آيات النسيان".. بلاد سكّانها صامتون