12-يوليو-2019

من الفيلم (IMDB)

حين لمحتُ بطلةَ فيلم "Border"، تينا لأول مرة، أعلن إحساسي وبصورة مريبة، أن الفيلم لا يتحدث عن البشر ولكن عن النظرة البشرية تجاه الثعالب. وبعدما أنهيت الفيلم- الحائز على جوائز عديدة- عاد الإحساس نفسه، ليس في ما يخص النظرة البشرية هذه المرة، بل في ما يخص تاريخ وجود الثعالب والأساطير والحكايات الشعبية على مر الأزمان والعصور، التي جعلت من الثعلب رمزًا يمثّل قوى الخير والشر معًا.

يتناول  فيلم "Border" قصة امرأة ذات مظهر قبيح وغريب، تعمل موظفة في الجمارك السويدية، وتملك القدرة على اكتشاف ما بداخل الإنسان من شرور

في البداية أود أن أذكر، في عام 1780، تحدث الكونت بوفون في كتابه "التاريخ الطبيعي بعمومياته وحيثياته" ولأول مرة بأن  الثعلب كائن مفكر، وإنه لا يصطاد فقط بدافع الجوع، كما تفعل الذئاب، بل أيضًا للمتعة، كما لو كان الصيد رياضة من الرياضات. وفي عام 2003 وبدافع الحرص على الثعالب ولتخليص البشر من معتقداتهم القديمة، عمدت قناة سويدية إلى تصوير برنامج عن الثعلب القطبي. وهو برنامج يمتد على مدى خمسة سنوات، ويهدف إلى المحافظة على الثعلب القطبي وعلى مسكنه من غزو الإنسان.

اقرأ/ي أيضًا: فيلم "The Virgin Spring": بيرغمان مترددًا

تناول المخرج الإيراني علي عباسي في الفيلم قصة امرأة ذات مظهر قبيح وغريب، تعمل موظفة في الجمارك السويدية، وتملك القدرة على اكتشاف ما بداخل الإنسان من شرور. تتصاعد الأحداث عندما تقبض على أحد المسافرين- بمساعدة ما تملكه من قدرة على معرفة ما بداخل الشخص- وبحوزته شريحة ذاكرة "رام"، تحتوي على صور لاعتداءات جنسية على أطفال. ومن هناك تستعين بها الشرطة السويدية في تعقّب العصابة التي يشك أنها تختطف الأطفال وتعتدي عليهم، وتقوم بتسجيل ذلك الاعتداء وحفظه على شكل صور حية.

تلتقي تينا بشبيها فوري في أحد الأيام عند مروره عبر حاجز الجمارك، فتشعر بوجود ارتباط قوي في ما بينهما، يقودها إلى أن تتعرف عليه وتدعوه إلى السكن معها. لتعيش معه أوقات سعيدة، تكتشف خلالها نفسها وأصولها البيولوجية، متناسية مظهرها القبيح وهيئتها الغريبة.

ينقلنا المخرج بعد ذلك، إلى لقطات عن شعور تينا الكبير بوجود "شر كبير" يلف حول حبيبها فوري، الأمر الذي جعلها تتخطى أثره لتجد أنه من ضمن العصابة التي تخطف الأطفال، بالإضافة إلى أنه يلد أطفالًا من نفس السلالة ويستبدلهم بأطفال البشر المخطوفين، وبذلك يضمن لسلالتهم البقاء من جهة، وينتقم من البشر من جهة أخرى. ينتهي الفيلم، بتسليم تينا لفوري إلى أجهزة الشرطة السويدية.

ولو شئنا أن ندرس الفيلم دراسة عينية، لكان علينا أن ندرسه في علاقته بالواقع. وما يجيء عادة في المحل الأول إنما هو الانطباع الذي يغمرنا كما قد يحدث أحيانًا حينما تأخذ قلوبنا على حين فجأة منظر مرعب، أو حينما يستولي علينا شعور عجيب. ولكنها تتحول جميعها في الخاتمة إلى الوعي أو النتيجة. وهنا يحق لنا أن نتساءل: ماذا عسى أن يكون المعنى المخبئ وراء هذه الشخصيات الغريبة؟

يبرز الثعلب، بفضل طبعه المبهم، من بين جميع الحيوانات، كمخلوق ناقص وغامض أو كمخلوق سيئ. ويرجع هذا التصنيف إلى الأساطير والحكايات القديمة. حيث ظهر الثعلب في اليونان الإغريقية على هيئة ثعلبة (تيوميسان) التي اضطهدت سكان طيبة، كما روت كتابات وروايات العديدين. واعتادت هذه الثعلبة العملاقة، ابنة تايفوس (الوحش ذو مائة رأس) وإكيدنا (أم الوحوش)، على ترصّد الطريق الرئيسي المؤدي إلى طيبة لتلتهم صغارهم. وبينما لا تشبه هذه الأسطورة أيًا من الأساطير التي جاءت لاحقًا تعتبر المدخل الرئيسي إلى فيلم عباسي، لأنها ساهمت في شيوع نظرتها إلى الثعلب كقوة مخيفة يجب ردعها والتخلص منها كي يتمكن المجتمع الإنساني من البقاء والاستمرار.

وصلت هذه الإدانة الأخلاقية للثعلب إلى أرسطو. وفقًا لمبدأه، صنَّف الثعلب ضمن المراتب السفلى، ليصف الثعلب كحيوان خبيث ودنيء، وذلك ينبع من عادته في الاختباء حيث لا يمكن للبحث الميداني الوصول إليه، فهو يتكون من الأرض، ويعيش في الأرض مختفيًا في ثنايا ظلمتها.

وقد تردّد صدى طبيعة الثعلب الدنيئة وانتمائه إلى الخبث والشيطان في جميع القصص والأوصاف وفي جميع الأزمان والحضارات. وانعكست هذه النظرة على الفكر المسيحي- اليهودي. حيث حصل الثعلب على نظرة خاصة خلال العصر المسيحي بسبب سكناه في الأرض، وذكائه غير المشروع، ولصوصيته. وأدت هذه النظرة إلى ربطه بقوى الشر والظلام كما ورد في النصوص القديمة التي تعود إلى العهد القديم.

أصبح الثعلب رمزًا لدمار التنوع الطبيعي، على عكس الحيوانات الأخرى. ظهرت آثار هذه الأفكار في محاولات البشر المتكرر للقضاء على الثعالب في العالم. ويعتبر الثعلب الوحيد من بين الثديات التي سمحت الحكومة البريطانية ليس فقط في قتله، بل ساعدت وكافأت من يقوم بذلك.

تطور تراث الثعلب في الأعمال الفنية والمعمارية لأن ظهوره تجسيد بديهي للشرّ الشيطاني. إحدى أشهر الحكايات عن الثعلب هي تلك التي تروي جدله مع الفهد، أو صراعه مع الذئب والغراب، والقصة المشهور بها باسم رينارد.

تطور تراث الثعلب في الأعمال الفنية والمعمارية لأن ظهوره تجسيد بديهي للشرّ الشيطاني

مؤخرًا، كرّس بعض علماء الطبيعة جزءًا من عملهمم لتبديد النظرة المذمة التي انصبت على الثعالب. وسبقهم غوته حين رأى نفسه في شخصية الثعلب رينارد. وعمد إلى تخليص ذكاء الثعلب من اللصوصية، وأبرز انعزال الثعلب وابتعاده، وعدم انتمائه إلى أي مجتمع.

اقرأ/ي أيضًا: فيلم يوم الدين.. حكاية محلية بإيقاع الوجع العالمي

قد لا يهتم المشاهد بمعرفة تاريخ الثعالب وأخلاقياتها، ولكنها بقيت ضمن الحدود والهوامش. ولو نظرنا إلى قصة البشر والثعلب، لوجدنا أن ما فيها من ضعف يرجع إلى عيوب في الميل تجاه السمات الفردية. والواقع أن الفيلم مجرد انعكاس للحالة الفعلية التي كانت عليها انطباعاتنا خلال فترة طويلة من الزمن، نظرًا لأنها كانت تبحث دائمًا عن المجتمع، كما كانت تحرص على تجنب كل ما قد يعد فرديًا. الفيلم، يعرض حالة الاستنكار العام التي نلقيها على جزء أو شيء لا يناسبنا.

 

اقرأ/ي أيضًا:

فيلم "M.I.A. A Greater Evil".. لماذا تركتمونا؟

فيلم "Come Sunday".. هل نحن أكثر رحمةً من الله؟