26-أكتوبر-2017

لقطة من الفيلم

أن يقابل حبيب ما والدي حبيبته هي ثيمة سينمائية مكررة في الأفلام الأمريكية، تفتح مجالًا لعروض متفاوتة القيمة والعمق والمتعة لما تضمنه الحكاية من مواقف مربكة ومحرجة وغريبة، حتى أن هناك أفلامًا بأكملها تؤسس من أجل هذا الغرض ولا تضع هدفًا لها سوى الإضحاك.

بسيناريو تشارك في كتابته كل من الممثل كوميل نانجياني وزوجته إميلي غوردون، يرسم "The Big Sick" حكاية حب وانفصال

مناورة تلك المواقف الاجتماعية تصبح أكثر عمقًا حين يُلقى بخلفيات ثقافية مختلفة لإثراء هذا المزيج في سياقه الأمريكي، كأن تحكي مثلًا قصة غرام بين شاب مسلم وفتاة أمريكية بيضاء، خصوصًا في ظل حالة الرهاب وكراهية الأجانب التي يغذّيها دونالد ترامب بقرارات حظر سفر الأفراد من بعض الدول المسلمة إلى الولايات المتحدة بحجة حماية بلده من خطر الإرهاب.

فيلم "The Big Sick" يأخذ هذه المجازات والاستعارات المعتادة في أفلام الكوميديا الرومانسية ويضيف إليها بعضًا من دراما المستشفيات من أجل ضبط المزيج. على السطح، ما من شيء جديد أو طازج فريد من نوعه في الفيلم، ولكن جديته العاطفية، ونصّه الحاد والكيمياء اللافتة بين أبطاله، تحوِّله إلى حكاية مرحة ومقنعة عن العلاقات تحمل بداخلها ما هو أكبر من مجرد كوميديا رومانسية.

اقرأ/ي أيضًا: كيف تعرف أنك تشاهد فيلمًا لدارين أرنوفسكي؟.. 5 علامات تؤكد لك ذلك

فيلم "The Big Sick" مستلهم من قصة حقيقية بطلاها الكوميديان الباكستاني الأمريكي كوميل نانجياني (بطل الفيلم) وزوجته إميلي غوردون، حيث التقى الزوجان في أحد نوادي شيكاغو للعروض الكوميدية وسرعان ما ارتبطا عاطفيًا من دون علم والدي الحبيب الباكستانيين المحافظين.

باقي القصة في فيلم "The Big Sick" يمكن التنبؤ به، فالتقاليد الباكستانية تقضي بأن يتزوج الشاب إحدى قريباته أو على الأقل إحدى بنات المجتمع الباكستاني في أمريكا، وبدوره يماطل الشاب المتردد بين ثقافتين في تقديم حبيبته الأمريكية إلى أهله وتعريفهم بها، الأمر الذي يفضى في الأخير إلى تصدّع العلاقة بينهما وانهيارها ليحدث الانفصال. لكن كان لقصة الحب بين نانجياني وغوردون فصل آخر درامي، بعدما أصيبت الأخيرة بمرض أجبرها على أن يُدخلها الأطباء في حالة غيبوبة لفترة طويلة، ليعود الحبيب إلى المشهد، مقيمًا إلى جانبها ساهرًا على رعايتها، رفقة والديها، اللذين يطلبان منه الابتعاد عنها وتركها لحالها.

بسيناريو تشارك في كتابته كل من نانجياني وزوجته إميلي غوردون، يرسم فيلم "The Big Sick" حكاية حب وانفصال وما بين الحالتين من مواقف تغيِّر الصور النمطية المسبقة. يبدأ الفيلم بمعاتبة مرحة من جانب كوميل لإحدى الحاضرات (إميلي)، لمقاطعتها له أثناء تأديته عرضه الكوميدي ، ثم في ختام السهرة يذهب كوميل بصحبة إميلي (زوي كازان) ليفعلا ما يصرّان على أنه سيكون علاقة حميمية لليلة واحدة One-night Stand.

تأكيدهما المشترك بأنهما لن يروا بعضهما البعض مرة أخرى سيستمر على مدى عدة لقاءات غرامية، ليصبح مثل نكتة متكررة، بعد أن تمتد علاقتهما لشهور لاحقة. المشكلة تكمن في أن كوميل ينتمي لعائلة باكستانية مسلمة محافظة، تؤمن بالزواج المرتب سلفًا ضمن حدود الانتماءات الإثنية والعرقية، وكما هو مألوف لدينا في المنطقة العربية، تستغل أمه المتسلطة فرصة اجتماع الأسرة على مائدة العشاء كل ليلة لتستعرض أمام ابنها سلسلة من بنات الجالية الباكستانية في أمريكا ليختار من بينهن زوجته المستقبلية. حين تكتشف إميلي أن كوميل لم يخبر عائلته عن وجودها في حياته، تنتهي الأمور بينهما بشكل سيئ.

فيلم The Big Sick مستلهم من قصة حقيقية بطلاها الكوميديان الباكستاني الأمريكي كوميل نانجياني (بطل الفيلم) وزوجته إميلي غوردون

وبمثل فاعليته في ربعه الأول، الذي يشهد نماء كيمياء محبة بين نانجياني وكازان، يتوقف الفيلم عند العلاقة المربكة بين كوميل ووالدي حبيبته السابقة حين تدخل إميلي إلى المستشفى بعد تشخيص إصابتها بعدوى غامضة خطيرة. في غياب أقرب الأقرباء وبمساعدة إحدى الصدف، ينتهي كوميل إلى الحصول على إذن رسمي من المستشفى لإدخال إميلي في غيبوبة من أجل العدوى، وهو القرار الذي سيمتن له كل من الوالدة بيت (هولي هنتر) والوالد تيري (راي رومانو) عند وصولهما من كارولينا الشمالية ليكونا بجوار ابنتهما في شيكاغو. ولكن على عكس كوميل، تخبر إميلي والديها بكل شيء عن علاقتها الفاشلة مع معه، ليحصل الشاب على جرعة ثقيلة من المعاملة الجافة والباردة، من قبل الوالدة على وجه الخصوص.

ما سيأتي بعد ذلك في  فيلم "The Big Sick" هو تطور العلاقة الأكثر إثارة للاهتمام في الفيلم، ففي حين تخضع بيث ببطء لقبول وجود كوميل في المستشفى، يبدأ تيري في التعامل معه بلطف. وفي موقف محرج للغاية،، يستغل تيري فرصة تناول ثلاثتهم الغداء في المستشفى من أجل التحدث مع "شخص مسلم" حول أحداث الحادي عشر من سبتمبر "ما موقفك من ذلك؟"، ليأتي رد كوميل كواحدة من أكثر المزحات إرباكًا يمكن أن يسمعها أمريكي حول الإرهاب.

بعده بقليل تجالسه بيث ويبدآن حديثًا وديًا، ويقضي كوميل معهما وقتًا طيبًا في شقة إميلي، التي يذهبون إليها لترتيبها وقضاء ليلة بعيدة عن أجواء المستشفى، يحصل فيه على بعض العزاء والنوستالجيا، ويسكر قليلًا معهما، بل إنه يقرض أذنه إلى شكاية أحدهما عن المشكلات الزوجية بينهما، ليحظى في النهاية بنصيحة مريبة من الأب يخبره فيها بأنه "كي تعرف الشخص الذي تحبه فعلًا ولا تستطيع العيش من دونه، لا بد أن تخونه أولًا".

المودة المزدهرة بين كوميل ووالدي إميلي هي من ذلك النوع القوي الذي ينشأ في وقت الأزمات الصعبة، حتى إن علاقته بهما تصبح أقوى من علاقته بإميلي نفسها قبل دخولها في سباتها السريري، وهو ما يمهّد الطريق لموقف مريب وغير متوقع حين تستيقظ من غيبوبتها.

هذا هو ملخص الفيلم تقريبًا وتطور أحداثه، ومن السهل تخيّل كمية معتبرة من المبالغات والإفيهات الكوميدية التي تتخلل أحداث فيلم مثل هذا في زمن ترامب، لكن نانجياني لا يلجأ لهذه الحلول المجانية، فالأمر "أعقد من ذلك بكثير"، مثلما يقول لوالدة بيث في أحد المشاهد في الفيلم. ولد نانجياني بباكستان لأسرة مسلمة شيعية محافظة، ثم هاجر في الثامنة عشر من عمره مع أسرته إلى الولايات المتحدة، حيث درس علوم الكمبيوتر والفلسفة في كلية غرينيل في ولاية أيوا.

اقرأ/ي أيضًا: فيلم "The Imitation Game".. أن تعيش متنكرًا لميولك ليس حلًا

ورغم لا أدريته التي يبديها في  فيلم "The Big Sick" وسخريته الدائمة من المثيولوجيا الإسلامية وتبرّؤ أسرته منه بسبب ذلك على الأرجح، إلا أن العداء الذي يلاحقه باعتباره أنه مسلم داكن البشرة يفرض عليه التموقع وراء حاجز يجد نفسه فيه مطالبًا بالدفاع عن الإسلام في مواجهة أصحاب العقول الضيقة. الأمر يصبح أكثر إثارة حين نجد أن واحد من ضمن أسباب القرب بين كوميل ووالدي إميلي في الفيلم هو المواجهة الشرسة التي تدخلها الوالدة مع شاب أبيض عنصري دفاعًا عن كوميل، بعد أن صرخ عليه أثناء تأديه فقرته الكوميدية : "اذهب إلى داعش".

أخيرًا، بالنظر إلى كم كبير من المقالات والأحاديث في السنوات الأخيرة حول "موت الكوميديا الرومانسية"، من السهل تخيل التوقعات الكبيرة التي ستوضع على "The Big Sick" لإحياء نوع فيلمي بأكمله.

The Big Sick هو الفيلم الذي يذكرنا عبر سخريته ولذاعته الخفية، أن اللحظات الأكثر أهمية غالبًا ما تحدث عندما ننحرف عن النصّ

ربما يبدو ذلك غير واقعي، خاصة أن  فيلم "The Big Sick" ليس موجهًا بشكل مباشر نحو الرومانسية، لكن مرور الوقت أثناء مشاهدته سيكون بمثل سلاسة الأمر في أفلام الكوميديا الرومانسية اللطيفة، فضلًا عن خلوه تقريبًا من اللحظات الضعيفة دراميًا والحبكات الساذجة المدغدغة للعواطف المعتادة في أفلام النوع.

وفي داخل  فيلم "The Big Sick"، ثمة فيلم آخر عن ذلك الباكستاني الأمريكي الذي يسعى لإنجاح حياته والاحتفاظ بنفسه ضمن العائلة، إنها معضلة انتماء مؤرقة لا يمكن إغفالها أو اعتبارها حدثًا جانبيًا، والمقاربة التي يقترحها نانجياني ليست ساذجة أبدًا، وهو في ذلك يشبه كثيرًا ما فعله عزيز أنصاري (وهو كوميديان أمريكي من أصول هندية) في مسلسله التلفزيوني الرائع "Master Of None".

إن فيلم "The Big Sick" هو ذلك الفيلم النادر الذي يذكّرنا، عبر فكاهته الساخرة ولذاعته الخفية، أن اللحظات الأكثر أهمية في الحياة غالبًا ما تحدث عندما ننحرف عن النصّ، وبالتأكيد سيحظى بمكافأة ما في موسم الجوائز القادم.

 

اقرأ/ي أيضًا:

فيلم "Annabelle: Creation".. رعب الدمى الذي لا ينتهي

فيلم "The Beguiled".. حكاية من الحرب الأمريكية بطلتها النساء