16-سبتمبر-2022
The Woman in the Window

من الفيلم

فيلم "The Woman In the window" مقتبس من رواية بنفس الاسم للكاتب دانيال مالوري (اسمه الأدبي A.J. Finn) وسيناريو لترايسي ليتس، ومن تمثيل آيمي أدامز وغاري أولدمان وجوليان مور وفريد هيتشينغير. مدة الفيلم 100 دقيقة وصدر عام 2021، ومن إخراج البريطاني جو رايت.

الحكاية

الدكتورة آنا فوكس تصاب برهاب الخروج من المنزل بعد تعرضها لصدمة أودت بحياة زوجها وابنتها. تمتنع فوكس عن الخروج من المنزل لمدة 10 أشهر، رغم محاولات طبيبها النفسي مساعدتها على إيجاد حلول من من أجل تخطي الرهاب، ومعاودة روتين حياتها العملي والخروج من منزلها. تتناول فوكس العديد من الأدوية والمهدئات لعلاج الأعراض الشديدة بعد الصدمة مما يجعلها في حالة من الهلوسة والخدر أحيانًا، وغالبًا ما تصاب بنوبة تفقد بسببها الوعي. أمام هذه الحال، تمكث فوكس في منزلها وتبدأ بمراقبة جيرانها عبر النافذة، وتحديدًا عائلة راسل القادمة لتوها إلى الحي. تقوم فوكس أحيانًا بتصوير العالم الخارجي بكاميرتها، ويحدث أن تكون شاهدة على جريمة قتل تتم في منزل جيرانها الوافدين الجدد، غير أن ظروفها وسياقات الجريمة يجعل من رأيها صعب التصديق.

يحكي فيلم "The Woman In the window" قصة امرأة تصاب برهاب الخروج من المنزل بعد تعرضها لصدمة أودت بحياة زوجها وابنتها

 

عالم جواني مضطرب

السؤال الأبرز في الفيلم، لماذا لم تستطع آنا أن تتخطى حاجز الخوف وكسر رهاب الخروج من المنزل بالرغم من كل الأدوية والجلسات العلاجية التي كانت تحصل عليها؟ ما هي اللحظة الفارقة في حياة المرء التي تجعله يتغلب على مخاوفه والسير خطوات إلى الأمام في مساره العلاجي؟ وما هو دور الموت في المسألة؟ سيما وأننا نعرف من خلال الفيلم أن الفضول والحشرية والتلصص إلى حياة الآخرين يعد بمثابة علامات جيدة للمريض النفسي تجنبه الانتحار، أو بمعنى أنها تشكل معطى مريح لناحية عدم إقدام المريض على الانتحار؟ سنحاول هنا الإجابة عن سؤال العلاقة بين الشعور بالموت وشفاء الدكتور آنا فوكس من رهابها، وكذلك سنحاول استكشاف تلك العلاقة الغريبة بين الفضول والتلصص، على أنها علامات إيجابية في كبح جماح الانتحار كما تشير أحداث الفيلم.

نعيش مع الدكتورة آنا فوكس وحدتها ووحشتها في منزلها، فمن الإضاءة الخافتة في المنزل، إلى تعلقها العاطفي ومساندتها لجارها المراهق إيثان راسل بحثًا عن ما يؤنس حياتها، وصولًا إلى تفاصيل يومياتها المضطربة، مرورًا بصعوبة أزمتها النفسية وصراعها مع ذاتها والتحدي الذي تعيشه في محاولتها لتخطي صدمتها وخروجها من المنزل.

يدخلنا الفيلم إلى عالمها الداخلي المضطرب ويخلق لدينا شعورًا من الحيرة بين صدقها وهلوستها. ومن هنا يأتي نجاح السينماتوغرافيا في نقل هذه الحالات الجوانية للشخصية من داخل شقة واحدة وتصوير من زوايا مختلفة دون الوقوع في التكرار والجمود والملل. وهكذا تجري أحداث الفيلم المشوقة والغامضة من خلال عين آنا فوكس، فيما يتابع المشاهد الجارية الأحداث من خلال تلك العين ويتماهى معها ويتأرجح تفكيره بحسب تأرجح تفكير آنا فوكس وحياتها.

من هو الرجل الذي تتحدث معه آنا فوكس عبر الهاتف؟ إنه زوجها إدوارد. لكن زوجها توفي في حادثة السيارة مع ابنتها أوليفيا! التحليل هنا أن فوكس تهذي وهي تعاني من اضطراب الفصام أو الشيزوفرينيا ويتسم بالهلوسة والتوهم وغيرها من الأعراض كسماع الأصوات خارجية تخاطب الشخص المصاب. فالحوار مع زوجها إدوارد كان يتم داخل عقلها فقط، كونها ترفض حقيقة موت زوجها وتريد للزمن أن يتوقف عند لحظات معينة كانت عائلتها لا تزال فيها حية. ولذلك تعيش آنا فوكس حالة من النكران لما حل بعائلتها، وتبعًا لهذا تجيب فوكس بالقول إنها مطلقة، وإن ابنتها تعيش مع والدها، وتتجنب الإشارة إلى أنها أرملة في الحقيقة وابنتها متوفاة.

وصحيح أن آنا فوكس تهتم للآخرين ولبناء علاقات اجتماعية قليلة بسبب شعورها بالوحدة والعزلة، ولذا نراها تمد يد العون لابن جيرانها إيثان وتدفق في عاطفتها تجاهه، ولكن دوافعها تنبع من خوفها أن تنسى وتهمل في أروقة منزلها وبين جدرانه. إنها تستغيث لنقل العالم الخارجي إلى داخل منزلها كونها غير قادرة على الخروج بنفسها إلى العالم.

ما هي الأغورافوبيا؟

للولوج أكثر إلى محركات سلوك الدكتورة آنا فوكس، لا بد من فهم الاضطراب النفسي الذي تعاني منه. تشخص حالة فوكس بكونها رهاب الخروج من المنزل Agoraphobia، وهو نوع من أنواع القلق ينطوي على خوف شديد وغير عقلاني، وغالبًا ما يعاني الأشخاص المصابون بهذا الرهاب من نوبات هلع وتسارع ضربات القلب والغثيان عندما يجدون أنفسهم في موقف عصيب. وقد يعانون أيضًا من هذه الأعراض قبل أن يدخلوا في الموقف الذي يخشونه. وفي بعض الحالات، يمكن أن تكون الحالة شديدة لدرجة أن الناس يتجنبون القيام بالأنشطة اليومية فلا يخرجون من منازلهم ويلتزمون داخلها معظم اليوم.

رهاب الخروج من المنزل Agoraphobia، وهو نوع من أنواع القلق ينطوي على خوف شديد وغير عقلاني، وغالبًا ما يعاني الأشخاص المصابون بهذا الرهاب من نوبات هلع وتسارع ضربات القلب والغثيان عندما يجدون أنفسهم في موقف عصيب

ويتسم الأشخاص المصابون بهذا الاضطراب بكونهم يخافون من مغادرة منازلهم لفترات طويلة من الزمن، ويخافون من الوحدة، ويخافون من فقدان السيطرة على أنفسهم في الأماكن العامة، ويخافون من التواجد في أماكن يصعب فيها الهروب كالمصعد أو السيارة، ويشعرون بالرغبة بالانفصال عن العالم الخارجي وعن الناس، ولديهم قلق مستمر. وكل هذه السمات واضحة على آنا فوكس وهي ما تحرك عجلة الفيلم بكونها موضع علاج من قبل طبيبها وبكونها تتداخل مع أحداث الفيلم. تؤثر هذه الحالة على آنا فوكس بالرغم من كونها مدركة لحالتها هذه، إلا أنها غير قادرة على فعل شيء حيال ذلك، وبالرغم من كونها معالجة نفسية على إلمام بعوارض اضطرابها.

غريزتي الموت والحياة

لا ينفك طبيبها النفسي بطرح أسئلة عليها تتعلق بالتلصص، بينما تبدي هي استغرابها من تلك الأسئلة. يسألها طبيبها "ما الأخبار في الخارج؟". ما العلاقة إذًا بين التلصص وبين الانتحار؟ تؤثر حالة آنا فوكس المرضية على تعاملها مع الأشخاص المحيطين بها، وتبعًا لذلك تصبح أكثر ميلًا لملء فراغ حياتها داخل المنزل عبر الاهتمام بتفاصيل حياة الآخرين والتلصص عليهم والانشغال بها، سعيًا منها لإعمال فكرها في أمور خارجية تمكنها من الهرب في التفكير بمصابها وصدمتها الأصلية.

وعلى الأرجح فإن التلصص على حياة الآخرين يضفي هدفًا على حياة الإنسان، ويعزز غريزة الحياة على اعتبار أن الاهتمام بأمور حياتية من شأنه أن يكبح جماح الرغبة بالانتحار والمتمثلة باستفحال غريزة الموت داخل الإنسان. وهكذا تهرب آنا فوكس من حياتها إلى حياة الآخرين لتجعل منها مدار اهتمامها ذلك أن حياتها كما تراها أصبحت شبه مدمرة. إنها سجينة، حبيسة اضطرابها، فالحادث الذي أودى بحياة زوجها وابنتها تتخيله أمامها داخل منزلها. إنها تشعر وكأن السيارة انزلقت داخل جدران بيتها. صار بيتها مقبرتها ولذا يجب أن تجد طريقة لترحل.

بين رايت وهيتشكوك

نلاحظ تشابهًا مع فيلم Rear Window لألفريد هيتشكوك الصادار عام 1954 حيث يجلس الممثل جيمس ستيوارت ليشاهد جيرانه عبر النافذة الشبيهة بتلك النافذة التي تتلصص منها الدكتورة آنا فوكس، ما يخلق شعورًا بسيطرة الكاميرا/عين آنا فوكس على المشاهدين، كما هي الحال مع فيلم هيتشكوك حيث لا ندخل إلى منازل الجيران بل نراقبها ونشاهد الأحداث عبر النافذة فقط لا غير.

وكذلك فإن بطل هيتشكوك مصور، وذو إعاقة حركية يمشي على كرسي فلا يمكنه الخروج من منزله، بينما الدكتور فوكس مصابة باضطراب نفسي يمنعها أيضًا من الخروج من منزلها. ومن هنا لا تعود الأحداث في الخارج هي الأساسية بقدر ما يحدث داخل منزل آنا فوكس مما يولد افتراضات عدة حول صحة الأحداث الخارجية من عدمها. هذا السياق الذي يحشر المشاهد داخله يحفز التفكير لا بل الشك وينتج عنه التلاعب المقصود للمخرج بأفكار المشاهدين. هذا الربط يظهر بوضوح في بداية الفيلم حيث يعرض لنا المخرج جو رايت مشهدًا من فيلم هيتشكوك Rear Window كدلالة على أن هناك جريمة قتل ستحصل في نهاية فيلمه.

لا يكتفي رايت بعرض مشهد من فيلم واحد لهيتشكوك، بل يعرض مشهدًا آخر من فيلم The Lady Vanishes الصادر عام 1938 لهيتشكوك أيضًا. يحكي الفيلم قصة امرأة تعتقد أن راكبًا من الركاب على متن القطار قد اختفى، لكن يتبين أن مخاوفها وادعاءاتها ناتجة عن حالة من الهلوسة، تمامًا كما نشعر مع ادعاءات آنا فوكس. وما يهدف رايت من إيصاله عبر عرض المشهد يتجلى في جملة: "في مجتمع حيث الخصال الحميدة المفقودة... أو حيث تعانين من الاعتقاد الخاطئ الأنثوي الشائع بأن مجرد كونك امرأة يعفيك من قواعد السلوك المتحضر". فوكس تعيش تحت وطأة الشعور بالذنب. إنها زوجة "خائنة"، وبالتالي أم غير جيدة. هذا الحكم المجتمعي يضغط عليها فيجبرها على عدم البوح بالأسباب التي أدت لخلافها مع زوجها داخل السيارة وأدت لحادث الاصطدام.

يتشابه فيلم "The Woman In the window" مع فيلم Rear Window لألفريد هيتشكوك الصادار عام 1954 في كثير من التفاصيل

 

الصدمة بحاجة إلى صدمة

لم تنفع العلاجات كافة لشفاء آنا فوكس من حالتها. تتناول فوكس الأدوية بوصفة طبية، ويأتيها المعالج النفسي إلى منزلها، وقد حاول علاجها بالتعرض للخروج من المنزل بواسطة المظلة، لكن أيًا من هذه العلاجات لم يثمر في فك رهابها. لكن حادثة واحدة كانت كفيلة بمنحها الدفعة المناسبة من القوة والإرادة لتخطي رهابها، وهذه الحادثة تتمثل في تعرضها لصدمة الشعور بالموت.

إذًا، كان اضطرابها العقلي النابع من صدمة موت زوجها وابنتها، كان يتطلب صدمة أقوى وأشد ليزيل مفاعيل الصدمة الأولى. ولذا، لم يكن من الممكن أن تفي أي صدمة أقل وطأة من الصدمة الأولى في فك رهابها، فقبل ذلك، شاهدت فوكس حالة قتل في منزل جيرانها، وحاولت الخروج، مجبرة تحت ضغط وإلحاح الموقف، من المنزل، واستعانت بالمظلة تجنبًا للاحتكاك بالآخرين ورؤية أناس كثيرين والاختلاط بهم، لكن جهودها لم تفلح وأصيبت بنوبة هلع فقدت على إثرها الوعي في منتصف الطريق. من هنا، لم يكن من الممكن مقارنة مقتل زوجها وابنتها بأي حدث أخر من الناحية الكمية والنوعية، إلى أن أتت محاولة قتلها، أي قتل الأنا، لتخرج منها كل طاقاتها الليبيدية للحياة وتتخطى بذلك حاجز رهابها بهدف النجاة والحفاظ على حياتها.