21-يونيو-2017

لقطة من الفيلم

يبدو الوضع الحالي لمجال الإعلام في مصر مناسبًا لتسليط الضوء على واحد من الأفلام الوثائقية التى تروي حكاية الثورة المصرية بطريقتها الخاصة، من خلال مقاربة تجربة فنية إعلامية واكبت ثورة 25 يناير وأضحت في ما بعد أحد أبرز تجلياتها، قبل أن تضطرها رغبة السلطة في السيطرة الكاملة على الفضاء الإعلامي إلى الاختفاء عن الشاشات.

فيلم "Tickling Giants" أو "دغدغة العمالقة"، يروي حكاية باسم يوسف، طبيب الجراحة الذي جعلته الثورة المصرية يتحوّل إعلاميًا ساخرًا

الفيلم هو "Tickling Giants" أو "دغدغة العمالقة"، والذي يروي حكاية باسم يوسف، طبيب الجراحة الذي جعلته الثورة المصرية يتحوّل إعلاميًا ساخرًا، لتأخذ حياته بعدها مسارًا لم يكن ليخطر له على بال. انطلاقة الفيلم في دور العرض الأمريكية جاءت في نيسان/أبريل الماضي بالتزامن مع عرضه على شبكة الإنترنت من خلال "نتفليكس"، وهو من إخراج الأمريكية سارة تاكسلر، إحدى منتجي البرنامج الشهير "ذا دايلي شو" للمذيع الأمريكي جون ستيوارت.

هذا الأخير ربما يكون نقطة انطلاق مبدئية لفهم فيلم "Tickling Giants" ودلالات توقيت عرضه في البلد الذي يشهد صراعًا علنيًا بين رئيسه والإعلام بصورة لم يسبق لها مثيل على المستوى الأمريكي.

البداية كانت من لقاء جمع بين باسم يوسف وجون ستيوارت حين استضافه الأخير في برنامجه وظهر خلالها نوع من الكيمياء والحفاوة المتبادلة بين الاثنين، وفي زيارة تالية قام بها يوسف لاستديوهات البرنامج الأمريكي من أجل إلقاء نظرة مقربة على كواليسه ومنظومة إنتاجه؛ التقت به سارة تاكسلر وبزغت في ذهنها فكرة فيلم قائم بالأساس على عكس شعورها تجاه حالة باسم يوسف وبرنامجه المزعج للسلطة ورحلة صعوده وهبوطه، السريعة والقصيرة نسبيًا.

اقرأ/ي أيضًا: 4 من أجمل أفلام السينما الإيطالية على الإطلاق

عن ذلك تقول تاكسلر: "متابعتي للأحداث التي رافقت برنامج باسم يوسف والمضايقات المتلاحقة على فريق عمل "البرنامج"، جعلتني أنتبه إلى نعمة العمل في أمريكا، في وقت يشعر كثير من المواطنين الأمريكيين بأن حرية صحافتهم أضحت على المحك".

تلك المقارنة المتضمنة في حديث المخرجة بين البرنامجين الأمريكي والمصري، لا تنفصل عن الأبعاد الواسعة لتراجيديا حكاية باسم يوسف، فإذا كان للبرنامج المصري خصوصيته ونكهته المميزة، ففي النهاية لا يمكن إغفال حقيقة أن الشكل التلفزيوني للبرامج الساخرة كما نعرفها وكما قدّمها باسم يوسف هي محاكاة أساسًا للأصل الأمريكي، المرتبط بتقاليد إعلامية تمنح حرية التعبير مكانها الطبيعي في أولويات العمل الإعلامي.

كلام المخرجة يساعد في تفهم الصورة النهائية التي خرج عليها فيلمها الوثائقي، فهو يتابع تجربة/ظاهرة "البرنامج" التي ارتبطت حياتها فعليًا ومجازيًا بمناخ جديد أوجدته رياح ثورة المصريين العظيمة التي لم تكتمل.

ليتحول باسم يوسف من تقديم حلقات متقشفة إنتاجيًا صوّرها في غرفة الغسيل بمنزله ليبثها عبر "يوتيوب"، إلى تقديم برنامج يحاول فيه السير على خطى جون ستيورات، ثم تحول ذلك المشروع إلى فقرة أسبوعية ينتظرها الملايين في أنحاء مصر والعالم العربي وتخشاها السلطة المصرية، وصولًا إلى مرحلة الاستئصال وتكميم الأفواه بوصول عبد الفتاح السيسي إلى الحكم.

ببساطة، يقدّم فيلم "Tickling Giants" صورة رمزية يمثّل فيها فشل "البرنامج" امتدادًا لفشل نقل النموذج الديمقراطي الغربي إلى المجتمع المصري. وهذا الطرح، على اجتزائه، يجد ما يدعّمه في تطورات الأحداث التي عصفت بـ"البرنامج".

يقدم فيلم "دغدغة العمالقة" صورة رمزية يمثّل فيها فشل "البرنامج" كامتداد لفشل نقل النموذج الديموقراطي الغربي إلى المجتمع المصري

فالمجتمع المصري الذي عاش طويًلا في كنف سلطة أبوية ترعى مصالح الشعب بطريقة كبير العائلة أو الأب الراعي، هو نفسه الذي لم يطق صبرًا على الثورة التي أشعل فتيلها المجموعات الغاضبة من استمرار ذلك الوضع، لتدخل البلاد في مرحلة من السيولة الفائقة التي ضاعت هباء ولم تُبق على أيٍّ من "مكتسبات الثورة"، التي ستُجهَض لاحقًا على أيدي المستفيدين من إعادة الوضع لما كان عليه قبل 25 يناير 2011، أو ربما أسوأ كثيرًا.

في فيلم "Tickling Giants" يصف باسم يوسف ابتعاده عن مصر بالهروب، فبعد خسارته قضية تعويض رفعتها ضده قناة CBC التي كان يُذاع برنامجه عبرها (كانت قيمة التعويض 100 مليون جنيه)، ومع شعوره بأنه مهدد بالسجن لا محالة؛ اصطحب زوجته وابنته الصغيرة وذهبوا إلى المطار.

بقليل من التفكير والتجاوز، يمكن مطابقة ذلك السيناريو على كثير من الحالات المصرية التي وجد أصحابها، من مناصري الثورة والرغبة في التغيير، أن الاستمرار في مصر لم يعد ممكنًا، في ظل ضغوطات وتضييقات تتزايد يوميًا.

من هذا المنطلق، فإن "Tickling Giants" أو "دغدغة العمالقة" معني بالتوثيق لا بالتدقيق، وبعبارة أخرى، فقد أفقده اهتمامه بالأبعاد السياسية التي واكبت عرض "البرنامج" فرصة التركيز على كواليس صناعة البرنامج نفسه، أي تلك المجموعة التي لم تظهر حينها أمام الكاميرات، ولكنها امتلكت جزءًا كبيرًا من سرّ نجاح "البرنامج.

لا جدال في أن باسم يوسف يمتلك نوعًا من "خفة الدم" مقبولة لدى الكثيرين، ولكن كما يقول المثل المصري الشائع "تضبيط الشغل أهم من الشغل"، لذلك كان حريًا بطاقم الفيلم مدّ سعيهم التوثيقي إلى هؤلاء الأفراد في فريق العمل.

بعد اختفاء "البرنامج" ومغادرة باسم يوسف لمصر مضطرًا، حاول العديد تقليده لعلهم يستنسخون نجاحه الهائل، ولكن كلها محاولات باءت بالفشل الذريع أو تحيا بالقصور الذاتي في أفضل الأحوال.

اقرأ/ي أيضًا: مترو "فرانسوا تروفو" الأخير.. عبور مسرحي

الممثل المصري أحمد آدم والشاب يوسف حسين، وكلاهما على طرفي نقيض، حاولا وراثة أسلوب "البرنامج وإعادة تقديمه، متناسين أن قيمته الأكبر تكمن في الإعداد الدؤوب الساعي لاستخلاص النكتة الساخرة من جمع وفرز مئات الفيديوهات والساعات التي تبثها القنوات الفضائية، رغم أن تلك المواد ذاتها قد سمعها الجمهور من قبل، ولكن تجاورها معًا كان "سرّ الصنعة".

فجعلهم "البرنامج" يقفون على تناقض تصريحات المسؤولين والشخصيات بصورة ساخرة لا تترك مجالًا لتأويل يتهرّب من مواجهة حقيقة الإرباك والتشرذم الذي وصلت إليه الحالة المصرية بعد انفراط عقد ثورتها باستلام المجلس العسكري للحكم ومن بعده جماعة الإخوان حتى وصولنا إلى عبد الفتاح السيسي.

ربما لم يضف فيلم "Tickling Giants" جديدًا على المستوى الفني أو المعلوماتي، إلا إذا وضعنا أنفسنا مكان المشاهدين الأمريكيين الذي يتوجه إليهم الفيلم، لكنه حمل قيمة توثيقية معتبرة تحمل للتاريخ حكاية لا يريد أحد من دوائر السلطة الاستماع إليها الآن (لأن الرئيس عبد الفتاح السيسي طالب المصريين أكثر من مرة أن يسمعوا كلامه هو فقط)، ولكنها ستحظى في المستقبل بالانصات اللازم اللائق بتجربة إعلامية مهمة لمَن يريد معرفة ماذا حدث لواحد من أشهر البرامج التلفزيونية في مصر بعد ثورة يناير، مهما اختلفنا حول باسم يوسف وقيمته وأهمية ما يمثله.

في الوثائقي يصف باسم يوسف ابتعاده عن مصر بالهروب، بعد خسارته قضية تعويض رفعتها ضده قناة CBC وكانت قيمة التعويض 100 مليون جنيه

بالمثل، لا يمكننا التعلل بغلبة وجهة نظر باسم يوسف وفريقه على رواية الفيلم والتقليل من شأن قيمته التوثيقية، فلا سبيل بالتأكيد لتحري وجهات نظر الفريق المضاد، وما يبقى أن حكاية باسم يوسف وحكاية برنامجه كما قدّمها الفيلم الأمريكي "Tickling Giants" تلخّص حال الإعلام في مصر -وسائر الدول العربية- بعد ثورتين.

حيث يجري العمل على استبعاد كل الأصوات المختلفة والناقدة بشكل تدريجي، وبكافة السبل المتاحة، لتُبقي السلطة على امتيازاتها القمعية في إثبات ما هو مثبت من قبل: ممنوع التغريد خارج السرب، وممنوع تجاز سقف النقد، المنخفض أصلًا، لأن أقدام السلطة الباطشة لن تتردد في سحقه، وحينها لن تستطيع ريشة الساخر أن تدغدغها، لأن جلد السلطة غليظ أصلًا.

 

اقرأ/ي أيضًا:

فيلم "أطفال السماء" وميثولوجيا الأحذية

فيلم T2 Trainspotting: لعبة النوستالجيا