13-يوليو-2017

لقطة من الفيلم

يواجهنا الممثل الأيرلندي "مايكل فاسبندر/براندون" في اللقطة الأولى من الفيلم الإنجليزي "Shame" وهو مستلق على سريره عاريًا إلا من غطاء يستر عورته، ويبدو على ملامحه الإنهاك والاستسلام وعدم الارتياح.

هذه هي البداية التي نتعرف بها على الشخصية الرئيسة في فيلم Shame قبل أن يرتدي ملابسه ويذهب إلى العمل في صورة أخرى أنيقة تتطابق مع النسخة التقليدية لشاب أمريكي في بداية الثلاثينات من عمره، مستقل، يملك وظيفة محترمة وشقة في وسط المدينة وأصدقاء عمل يسهر معهم.

ما يجعل بطل فيلم Shame مختلفًا هو شهواته الجنسية التي لا تفارقه ولا تمنعه من ممارسة الجنس أينما كان، فأصبح عبدًا لها

نموذج مكرر لحياة نعرفها ونعيشها أيضًا في أي بلد في العالم، لكن ما يجعل بطل فيلم Shame مختلفًا هو شهواته الجنسية التي لا تفارقه ولا تمنعه من ممارسة الجنس أينما كان، فأصبح عبدًا لها، فحولته إلى مدمن لا يعبأ إلا بالوسيلة التي سيُفرغ بها شهوته حتى لو كان وحيدًا في دورة المياه، أو وحيدًا مع حاسوبه الشخصي.

في حديث معه يقول ستيف ماكوين مخرج فيلم Shame أن "براندون" هو واحد منا، يُشبهنا تمامًا لكنه هنا لا يحاول أبدًا أن يحاكمه على أفعاله أو أخلاقياته، وأن شخصية "براندون" بالأساس مستوحاة من شخصيات حقيقية، لكن هؤلاء الشخصيات ينتمون إلى المجتمع البريطاني المحافظ الذي لا يسمح بالإفصاح التام عن إدمانه للجنس، ما صعّب المهمة على ماكوين أثناء كتابة السيناريو، وما دفعه إلى السفر إلى مدينة أخرى أكثر انفتاحًا وتصالحًا مع أزماتها.

فكانت نيويورك التي فتحت لستيف ماكوين أبوابها وساعدته في استكمال رسم ملامح "براندون" الذي تحول في النهاية إلى شخصية غير مثالية، ورغم ذلك لا تجد انسجامها وروحها مع مدينة مليئة بالحياة كنيويورك.

نيويورك..
نيويورك..
أريد أن أستيقظ في مدينة
لا تنام

تقف "سسي" شقيقة براندون لتغني في المطعم أغنية فرانك سيناترا الشهيرة "نيويورك" وأضواء المدينة الساهرة تلمع بالخارج، بينما دموع أخيها تنهمر منه في هدوء، فهو جزء من مدينته، يواجهها كل صباح عبر نوافذ شقته العالية المفتوحة على نيويورك، تستقبله شوارعها وأنفاقها، وهو أيضًا يتشكل على شاكلتها.

يمارس الحب في الأزقة، ويجري في شوارعها ليلًا هربًا من رغباته المحرمة في ممارسة الحب مع شقيقته لأنه شخص هزيل، ضعيف، مدمن لاحتياجاته الجنسية. يتلصص سرًا على سكانها الذين يمارسون الجنس أمام نوافذهم المفتوحة تمامًا كما يفعل هو، وتمامًا كما نتلصص نحن عليه من عدسة الكاميرا.

اقرأ/ي أيضًا: بين فيلمي "معلمة البيانو" و"شيطان النيون".. أن يكون الجمال بداية للرعب

يحاول "براندون" أن يخرج في موعد مع فتاة، أن يصبح ملتزمًا في علاقة تبدو أنها بهدف الحب، لا بهدف ممارسة الحب، والمدينة في الخلفية تشهد على تلك المحاولة، وتستقبله هو والحبيبة الجديدة للسير في شوارعها الهادئة.

تلك الحبيبة التي تتبدل ملامحها عندما يُخبرها أنه لا يرى فائدة من فكرة العلاقات، ومن فكرة الارتباط بشخص واحد مدى الحياة.

هذه ليست المرة الأولى التي نرى فيها "براندون" غريبًا وغير منسجم مع الآخرين، هو شخص يليق تمامًا بوحدته، حتى بممارساته الجنسية مع الغرباء، أيًا كان جنسهم، ما يليق به حقًا هو مواجهته الدائمة للمدينة الباردة التي لا تشكل له براحًا، التي يهرب منها وإليها، فيجدها شديدة القسوة والبرودة، والضبابية. يُلقي عليها أحماله في صمت، ويراقبها برتابة كضيف منبوذ، ويُدير ظهره لنا كأنه لم يعد يحتمل مواجهة الآخرين.

في النهاية، تضيق به الحال، لم يعد يجد في المتعة أي متعة، أصبح مجرد آلة جنسية يبحث عن سبل جديدة لمغامرات جسدية بلا روح. عندما كان على وشك أن يفقد أخته في محاولتها للانتحار، وقف صامتًا في مواجهة نفسه، راح يسير في شوارع نيويورك التي استقبلته هذه المرة بالأمطار والسقيع، بكى، خجلًا من نفسه وآسفًا على حاله، وعلى أخته التي بدت محاولة موتها كعقاب إلهي يستهدفه هو.

يليق بطل فيلم Shame بوحدته، بممارساته الجنسية مع الغرباء، أيًا كان جنسهم، ما يليق به حقًا هو مواجهته الدائمة للمدينة الباردة

أصبح براندون في النهاية مجرد ورقة ممزقة ملقاة على قارعة الطريق في مدينة لم تعد تتحمل عاره وخيبته. يذكرني المشهد الأخير لبراندون بواحدة من أعذب قصائد الشاعر اليوناني/المصري قسطنطين كفافيس بعنوان "المدينة"، فيقول:

لا تأمل في بقاع أخرى
ما من سفينة من أجلك
وما من سبيل.
ومادمت قد خربت حياتك هنا
في هذا الركن الصغير
فهي خراب أينما كنت في الوجود.

 

 

اقرأ/ي أيضًا:

"18 يوم".. فيلم متواضع أشعل في نفوس المصريين ذكرى الثورة والميدان

كلاسيكيات: فيلم "5 أصابع".. تجسس وكوميديا وأموال مزورة