28-فبراير-2020

من الفيلم (IMDB)

ليس من الضروري أن يكون شريط "Operation Finale" للأمريكيّ كريس ويتز نوعًا من البروباغندا، ولكنّه حتمًا مُحاولة، سينمائية هذه المرّة، لتكريس سردية تاريخية بعينها. إنّ طموح الشّريط هو أن يكون عملًا ملحميًا، وأن تُكرَّس هذه السردية عبر الملحمة المُتمنّاة، غير أنّ النطاق الذي يتحرّك فيه ليس نطاقًا ملحميًا أو أسطوريًا، كما أنّه ليس تاريخيًا أيضًا، وإنّما إطار توثيقي إلى حدٍّ بعيد، الأمر الذي يجعل من الشريط مُعتمدًا على الوثيقة اعتمادًا مُباشرًا، سالكًا أبسط الطرق في التعامل معها: إبقائها على حالها، وإحاطتها ببعض المشاهد واللقطات التمويهية، أي أنّ هذه السردية/ الوثيقة هي من يحمل العمل فعليًا.

فيلم "Operation Finale" محاولة سينمائية لتكريس سردية تاريخية بعينها

إنّ أهمّية "العملية الأخيرة" التي لا تبدو مألوفة إلى للصهيونية، هي في الحقيقة عيبه الأكبر: سرد رؤية الأخيرة للهولوكوست وسرديتها التي شكّلتها حول المحرقة، والتعامل مع النازي الذي تصرّ أنّه مدبّرها، أي الضابط أدولف أيخمان. أمّا بقية العيوب والسقطات كذلك، فيمكن توزيعها على: الاعتماد على سردية/ وثيقة رسمية مُحرّفة لتشكيل بُنية العمل بشكلٍ يؤكّد التخلّي عن العنصر الفنّي، المُبالغة في مُحاولة كسب مشاعر المُشاهد عبر الاعتماد على مشهدين يصوِّران مُعاناة اليهود وتكرارهما غير مرّة بطريقةٍ غير مبرّرة، التعامل مع المكان الثاني لأحداث الشريط، فلسطين، كمكانٍ غير موجود، وكأنّ الصهاينة موجودين هناك منذ الأزل، بدلًا من أصحاب الأرض.

اقرأ/ي أيضًا: في فيلم "الطفيلي".. رائحة الفقراء في مرايا السينما

عبر تفضيل الوثيقة على الحكاية، والتقارير/ السرديات الرسمية على مُحاولة بناء نصٍّ ذا نفسٍ جاد، بُني الشريط المُنحاز تمامًا على حكاية اختطاف فريق تابع للموساد الإسرائيليّ لأيخمان. وضمن سياقات واضحة، بدت واضحة مُحاولة تحريف حقيقة العملية، وتكريس فكرة أنّها عملية أخلاقية لا تندرج ضمن الحسابات السياسية، يتحوّل الفريق عندها إلى مجموعة أعمال خيرية، لا مجموعة استخباراتية. تبدأ مُحاولات التحريف هذه عند المشهد الذي يعرف فيه المُشاهد أنّ أفراد الفريق المكلّف باختطاف أيخمان، جميعهم، ناجون ممّا حلّ بأبناء جلدتهم، تتبعها مُحاولات تحريف ثانية لحقيقة المؤسّسات الأمنية الإسرائيلية تحديدًا، فالفريق يتحرّك وكأنّ ما يُحرّكه ليست أوامر القيادة، وإنّما الأخلاق.

ليست عملية التحريف أو التزييف هذه إلّا مُحاولة للردّ أو الالتفاف على المبرّرات التي قدّمها النازي أدولف أيخمان أثناء محاكمته، حينما أصرّ على أنّه لم يفعل شيئًا من تلقاء نفسه، وإنّما كان ينفّذ الأوامر فقط. والنتيجة المُتمنّاة ظهور إسرائيل كدولة تُتيح مؤسّساتها، الأمنية على وجه التحديد، لأفرادها التصرّف بناءً على ما تمليه عليهم أخلاقهم، على عكس دولة هتلر. وضمن هذه الفكرة، نُشاهد أحد أفراد الفريق يُحاول إقناع زميلته بالعودة إلى الفريق الذي غادرته بسبب ارتكابها خطأ طبّي أنهي حياة أحد المختطفين بعد حقنه بجرعة مخدر زائدة. وعلى هذا المنوال، تُنسج بقيّة أحداث الشريط بحيث نصير كما لو أنّنا لسنا إزاء فريق تابع للموساد التابع بدوره لدولة محتلّة، وإنّما فريق تُحرّكه الدوافع الأخلاقية والإنسانية. هكذا، تُجاور مُحاولة تكريس السردية الصهيونية، غير الصحيحة بالضرورة، عن المحرقة مُحاولة تكريس أخلاقيات الدولة الجديدة ومؤسّساتها.

يُكرّر أيخمان في الشريط العبارات التالية: "لا أريد أن أكون كبش فداء"، و"أتريدون منّي المثول أمام المحاكمة وحدي بدلًا من نظامٍ بأكمله؟"، و"كنت مجرّد سنّ في آلة"، بالإضافة إلى سؤاله مُحتجًّا "لماذا أنا المذنب الوحيد عن آثام بلادي؟". أقوال أيخمان هذه جاءت على الهامش تمامًا، ضمن سياقات تكون فيها غير مُلفتة، يتبعها عودة فورية إلى الماضي، عندما كان أيخمان يُشرف بنفسه على قتل اليهود، الأمر الذي يُزيح الأهمّية عن كلامه لصالح المشاهد التي تُدينه.

إنّ التوقّف عند تحليل شخصية أيخمان يتطلّب العودة بلا شكّ إلى كتاب حنّة أرندت "تفاهة الشّر"

إنّ التوقّف عند تحليل شخصية أيخمان يتطلّب العودة بلا شكّ إلى كتاب حنّة أرندت "تفاهة الشّر"، والذي قدّمت فيه قراءة نقدية لمحاكمة أيخمان، ولأيخمان نفسه، ولطريقة تعاطي المنظّمة الصهيونية مع الهولوكوست، أي أنّ الكتاب تصدّي للسرديات المكرسّة من خلال القاء الضوء على الجانب الذي أُهمل في المحاكمة وكذا في الشريط أيضًا، أي إهمال حقيقة أنّ أيخمان نفسه جزء صغير من منظومة توتاليتارية تعمل على عزل الفرد وتدميره وتطويعه ووضعه ضمن منظومة بيروقراطية صارمة، كان أيخمان مُلزمًا على تقديم فروض الطاعة له.

اقرأ/ي أيضًا: فيلم "1917".. الحرب من كابوس إلى وقت للتنزّه

ما فعلته حنّة أرندت أنّها لم تبرّر انتهاكات أيخمان، ولكنّها رفضت طريقة محاكمته، وهي الطريقة التي يسعى الشريط لتكريسها. فأيخمان لم يكن منحرف وسادي أو متوحّش كما أظهرته المحكمة والشريط معًا وإنّما إنسان عادي يطمح للصعود في سلم البيروقراطية، بمعنى أنّ أفعاله الشريرة تنطوي على نوايا تضمر الشّر. وبحسب الفيلسوفة الألمانية لا يبدو ذلك صائبًا، لأنّ أيخمان إنسان عادي لدرجة تبدو عاديته عندها مرعبة جدًا، لا سيما وأنّها تتغذّى على بلاهة شديدة تجعله منسلخًا عن أفعاله وغير مدرك لها، بالإضافة إلى افتقاره للقدرة على التفكير من وجهة نظر شخص آخر. كلّ هذه التفاصيل، يُحاول الفيلم إنكارها، والعمل على تكريس السردية المضادّة لها، أي أنّه مُنحاز بالضرورة لا سيما وأنّه أساسًا اعتمد في بنائه على السردية نفسها اعتمادًا مباشرًا. ولا يُلغي ذلك فكرة أن يكون استثمار جديد للهولوكوست.

اقرأ/ي أيضًا:

فيلم "إني أتهم".. بولانسكي في قناع دريفوس

أشرف مروان "The Spy".. العميل المُحيّر