05-أكتوبر-2020

من الفيلم (IMDB)

"ليس من وظيفتي شرح أحداث الفيلم للمشاهدين" يقول الكاتب والمخرج تشارلي كوفمان في حديثه لموقع IndieWire. ويرى بأنه يترك للجمهور عيش تجربتهم الخاصة مع الفيلم، دون أن "أفكر بردة فعلهم أو الأفكار التي ستراودهم بعد المشاهدة. وفي الحقيقة فإني أدعم تفسيرات الجميع مهما كانت". يقتبس كوفمان فيلمه من رواية، وفي هذا الصدد يقول "أنجح في الاقتباس عندما أسمح لنفسي بفعل كل ما يعطي معنى بالنسبة لي"، ويضيف: "وإذا لم أسمح لذلك بالحدوث، فإنني أنتهي بإخراج فيلم ميت بالنسبة لي".

في فيلم "I’m Thinking of Ending Things"، بنى الكاتب والمخرج تشارلي كوفمان قصة عميقة تعتمل في داخل رأس رجل عجوز مضطرب يعاني من الوحدة والعزلة

فيلم "I’m Thinking of Ending Things" مأخوذ من رواية الكاتب الكندي إيان ريد 2016 التي تحكي قصة الفيلم عن جايك، وهو شاب هادئ، يصطحب صديقته الجديدة لوسي في رحلة طويلة لمقابلة والديه بعد مرور ثلاثة أشهر على علاقتهما. وفي الطريق حيث الطقس ثلجي وعاصف، تبدأ الأحداث بالتراكم وتبدأ الأفكار بالتوارد إلى رأس لوسي، الراوية للقصة. وتتسلط عليها فكرة أن تنهي علاقتها بجايك "فما هو نفع الاستمرار في علاقة محتم عليها الفشل والموت في النهاية". وحين يصلان إلى منزل والدي جايك، يتحمل الثنائي عشاء محرجًا مع شخصين غريبي الأطوار، ثم يغادران ليلًا مع هبوب العاصفة إلى منزلهما، إلا أن جايك ينعطف إلى مدرسته الثانوية ليعيد ذكرياته وليشارك لوسي مرحلة من مراحل طفولته.

اقرأ/ي أيضًا: The Three Identical Strangers.. حكاية التوائم الأشهر في أمريكا

بنى كوفمان قصة عميقة تعتمل في داخل رأس رجل عجوز مضطرب يعاني من الوحدة والعزلة، ويردد طوال الفيلم جملة "أنا أفكر في إنهاء الأمور"، في إشارة إلى وصول حياته إلى خواتيمها حيث صار من المفترض إنهاءها. ولفهم الفيلم يجب التقاط طرف الخيط كما يقال وبعدها يمكن أن تتفكك الحبكة تدريجيًا لمجرد معرفة المشاهد لمصدر الحكاية الرئيسي الذي بنى كوفمان القصة عليه. فالأحداث والشخصيات إنما هي كلها انعكاس لفكر العجوز أو الآذن في المدرسة وتاريخه وتجاربه وأفكاره وعلاقاته العاطفية والأسرية. فيلم بمثابة رحلة في أرشيف ذاكرته.

في عدة لحظات، بدا كما لو أن جايك يستمع إلى الأفكار في رأس لوسي، وكان يلقي نظرة سريعة إليها أثناء تعليقها الصوتي ويقاطعها أحيانًا، بينما كانت لوسي تنكرها بدورها. هل هو تخاطر ذهني؟ ينكشف اللغز في نهاية الفيلم: الرحلة الطويلة والعاصفة الثلجية والسيارة وجايك ولوسي وحواراتهما وأفكارهما الأحادية ووالدي جايك والمنزل ومحل الآيس كريم والمدرسة والمسرح، كلها أفكار تعبر عن مسار حياة الآذن في المدرسة الذي ابتكرها من خياله. إنها رحلة في الذات الإنسانية من المهد إلى اللحد، من الولادة إلى الموت. إنها رحلة في عقل عجوز مضطرب تتصارعه الأفكار المتناقضة والذكريات والآلام والرغبات المتعارضة في الموت أو الانتحار.

الفيلم سرد مكثف، سريع وبطيء في الوقت نفسه، حيث الأحداث بطيئة والحوارات سريعة. إنه فيلم بارد في الشكل وساخن في المضمون. فيلم مليء بالمعلومات التي يصعب فهمهما بمشاهدة واحدة لأنها بحاجة إلى إحالة إلى أفلام أخرى أو كتب أو قصائد أو مقاطع موسيقية أخرى. فيلم مليء بالرموز التي تطالع المشاهد تقريبًا في كل مشهد حيث يصبح من الصعب الإحاطة به وبكل ترميزاته، بدون البحث والربط في الإشارات وتحليل الرموز التي يعرضها كوفمان. إنه فيلم محبط لمن يقول "لم أفهم قصته"، لأنه فيلم أكبر من قصة.

إنه قصيدة وفلسفة وحكمة مُزجا مع لقطات مبدعة وأداء تمثيلي مبهر. فيلم يجب أن يشاهد بالإحساس، بالحواس، ثم بالفكر. إنه عالم من الغرابة والألغاز والحزازير وضعت في إطار متماسك جميل. لذلك، فتحليل الفيلم من منطلق "المنطق" لا يجوز، بل سيكون عملًا مضنيًا للغاية. وكذلك محاولة فهم تسلسل الأحداث باستخدام المنطق ذاته، لأن الفيلم الكوفماني سريالي أي أنه يمزج الواقع بالخيال. ولذلك تبدو أفضل وأمتع طريقة للتعامل مع فيلم كوفمان هي التلذذ بتركيب أقسامه واحدًا تلو الأخر للوصول إلى نتيجة معقولة.

فيلم "I’m Thinking of Ending Things" قصيدة وفلسفة وحكمة مُزجا مع لقطات مبدعة وأداء تمثيلي مبهر

طوال الفيلم نصاب بنوع من الحيرة عما إذا كان اسم لوسي هو حقيقة اسمها. لكن من المؤكد أنها شخصية غير مكتملة ومن بناها في خياله لم يتخذ قراره النهائي بتسميتها لوسي. فتارة يسميها إيمي أو إيمز، وهي شخصية صنعت من الأفلام والكتب والمقاطع الموسيقية ومن الوحدة والعالم المنعزل الذي كان يعيشه جايك مع والديه في طفولته. إنها عالمة فيزيائية وشاعرة ونادلة في المطعم ورسامة تجريدية. لذلك فإننا نكتشف بأن ما تقوله لوسي من أشعار هو في الحقيقة موجود في كتاب داخل غرفة جايك المزدحمة بالعوالم الغريبة والتفاصيل الدقيقة. وكذلك رسوماتها فإنها تعود لرسام آخر. كل ذلك ينتج عن التشوش والتخبط والتصدع في عقل الآذن- جايك الباطني المحشو بالمعلومات والصور والتصورات.

اقرأ/ي أيضًا: فيلم "كارديك".. الرغبة بتغيير العالم

يسأل جايك لوسي عما إذا كانت قد قرأت رواية الخيال العلمي للروائية البريطانية آنا كافان بعنوان "الجليد"، وفيها رؤية مؤرقة وخانقة لنهاية العالم، حيث يغطي الجليد كامل الأرض ويقتل كل شيء يقف في طريقه، بينما يظل بطل الرواية المجهول يلاحق امرأة شابة مراوغة إلى النهاية. الرواية عبارة عن رحلة مثيرة بين الهلوسة والقلق تقوم خلالها الروائية باستعراض الألم جراء الإدمان والوحدة والمرض العقلي.

ومن المؤكد أن الرواية موجودة في غرفة نوم جايك وكان قد قرأها العجوز الآذن، لذلك فقد شعر بالتماثل بين موضوع الرواية وبين رحلته مع لوسي وسط العاصفة الثلجية. تمامًا كما القصيدة الحزينة التي ألقتها لوسي على مسمع جايك فأجابها بالقول: "أشعر بأنك تقولين ما في رأسي وتعبرين عن مشاعري".

إنه ذات هشة وكيان متضعضع، وربما مرد ذلك إلى الطفولة البائسة التي عاشها مع والديه وطبيعة التربية التي نالها والوحدة التي رزح تحتها في هذا العالم الجليدي البارد. وبالرغم من أن لوسي هي نتاج الفانتازم للعجوز الآذن- جايك، إلا أن لها شخصية مستقلة أيضًا قادرة على التفلت من خيال الآذن، فالعجوز ليس بمقدوره السيطرة حتى على خيالاته، أو تحقيق مبتغاه وأمنياته حتى داخل عالمه الخيالي المبتكر، فقد كان يتخيل الشيء ونقيضه في الوقت نفسه! كان يتخيل بأن حياته مع لوسي ستكون جميلة ورومانسية، ثم سرعان ما تراوده خيالات أن حياتهما ستفشل وسيصيبها الملل منه، وكيف أنه سيصبح غير جذاب وغير ذكي بالنسبة لها.

كان يتخيل رؤيته لفتاة جميلة مع عجزه عن طلب رقم هاتفها تارة، وتارة أخرى يدعوها إلى منزله. هناك أحداث كثيرة مرت في حياة جايك لم يستطع خلالها أن يتخذ القرارات أو يتصرف ويحقق ما يريده. إنه شخصية مكبلة بالكامل، وقد سقطت أحلامه وتناثرت حتى أصيب بجروح في روحه وامتلأ بالحقد والغضب.

سقطت أحلام بطل فيلم "I’m Thinking of Ending Things" وتناثرت حتى أصيب بجروح في روحه وامتلأ بالحقد والغضب

وفي الأمسية على العشاء مع والدي جايك، يأخذنا كوفمان إلى لحظات مخيفة حتى نكاد نشعر بأننا أمام فيلم رعب محتمل، وبأن جريمة قتل تنتظرنا خلف الباب المودي إلى الطابق السفلي، وبأن والدي جايك مصاصي دماء، لكن شيئًا من كل هذه السيناريوهات لا تتم. ونجد أنفسنا أمام مراحل من حياة جايك ووالديه، وإبان كل مرحلة عمرية  تظهر لنا طبيعة الحياة التي عاشتها الأسرة.

اقرأ/ي أيضًا: فيلم "Her".. هل يمكن أن تنشأ علاقة عاطفية بين الإنسان والآلة؟

لكن في أي مرحلة تحديدًا ظهرت لوسي في حياة جايك وأسرته؟ هذا ما يصعب على العجوز الآذن تحديده، ذلك لأنه يحاول حشر لوسي في أي مرحلة من مراحل حياته دونما أي نجاح في ذلك، في مقابل إصرارها المستمر على الرحيل. إنه حب ضائع لم يجد طريقه إلى حياة الآذن بأي شكل من الأشكال وظل وهمًا وسرابًا.

ويعرض لنا كوفمان عبر الحوار بين جايك ولوسي لعدد من الرموز، فمن النقد السينمائي عند بولين كايل، ونظرية الألوان عن جوته ومقالات ديفيد فوستر والاس، وفيلم A Beautiful Mind، ووصولًا إلى كتاب"مجتمع الاستعراض" للمفكر الوجودي جاي ديبور المتمرد على الأنظمة والقوانين، والذي اختار الانتحار بطلقة من مسدس ليثبت تمرده على كل السياقات. يقول ديبور "الفرد في مجتمع الفرجة هذا صار يعيش بحسب صورته لدى الآخرين، لا وفق ما يكون عليه، إنه عالم أقنعة ليس إلا"، ويضيف جملة بديعة مفادها "فككوا الصورة تروا الحقيقة".

وهكذا عبر تفكيك الرموز تتبين الصدمات في طفولة الآذن- جايك، فمن المؤكد أن هناك روابط بين الخنزير والديدان تتصل بماضيه وتبقى متصلة بالكائن الإنساني حتى أخر لحظات حياته، ولا يمكن أن تزول سوى بالتصالح مع الماضي. يقول "تعيش الحيوانات في الوقت الحاضر، أما البشر فلا يستطيعون، لهذا ابتدعوا الأمل".

يعرض لنا الفيلم شريطًا إعلانيًا رومانسيًا هزليًا من إخراج روبرت زيميكس، وهو عبارة عن قصة قصيرة تنتهي نهاية مفاجئة مضحكة وساخرة، فالحياة ليست مثالية بالقدر الكافي، لا بل إنها مسيرة مليئة بالمفارقات. فالحب لا ينتصر دومًا، وليست النهايات سعيدة كما في قصص الأطفال. ويقتبس جايك من خطاب الاقتصادي جون ناش الذي أصيب بالفصام وجنون العظمة ووجد مشاكل في التكيف مع محيطه. هناك أوجه شبه شديدة بين ناش والآذن- جايك.

في المشهد على خشبة المسرح، يجلس جايك داخل ديكور يشبه غرفة نومه فيما يغني أغنية من فيلم أوكلاهوما. يغني وينشد البطل جايد إلى لوري: "هناك حلم يرقص في رأسي، وكل الأشياء التي أرغب بها، والمرأة التي أريدها لا تخاف من ذراعي، لكني لن أحلم بها بعد اليوم". من هذه الكلمات يتضح الرابط بين كل الرموز التي طرحها كوفمان وبين شخصية الآذن حيث لكل لغز هدف.

جي ديبور: "الفرد في مجتمع الفرجة هذا صار يعيش بحسب صورته لدى الآخرين، لا وفق ما يكون عليه، إنه عالم أقنعة ليس إلا"

في المسرح أيضًا نجد أن وجوه الحاضرين مشوهة، ويمكن التخمين أنهم جميعًا في عمر متقارب نوعًا ما. فالعجوز في خياله يصطحب معه جميع الحاضرين ويضعهم في نفس الإطار الزمني، فهؤلاء كانوا زملاءه في المدرسة الثانوية حيث كان يتعرض الآذن- جايك للسخرية والتنمر، فيما يتعاطف معه فقط من عانوا من السخرية والوحدة والعزلة.

اقرأ/ي أيضًا: أفلام غاسبار نوي.. التحرر المطلق من كل مألوف

تنتهي حياة الآذن في شاحنته المغطاة بالثلج الأبيض. نهاية مأساوية لرجل واجه مختلف أنواع الإحباطات والخذلان حتى لحظة مماته. رجل عاش على أمل، رجل عاش في الظل، رجل سعى لأن يتم تقبله من الآخرين، رجل استحق التكريم حتى لو في خياله، رجل افتقد الكثير من الأشياء في واقع حياته، فلجأ إلى الخيال ليعوض ما فاته. إنه فيلم يحكي عن رحلة إنسان واحد، عن تجربة إنسان واحد، لذلك يجب أن نقبل تجربته وما مر به، كما طرحها ومن وجهة نظره، وكما عاشها بالنسبة له لأنها تجربته الفريدة، ولكل إنسان تجربة!

 

 

اقرأ/ي أيضًا:

كيف بدأت أفلام الرعب؟

شريط كوستاريكا عن خوسيه موخيكا.. رجل يعيش في حكمته