11-مايو-2018

من الفيلم

في فيلمه "Come Sunday"، يبدو أنّ الاشتغال على "الفكرة" لا "المحتوى الجماليّ" هو ما يعني المخرج الأمريكيّ جوش مارستون (1968). ذلك أنّ فكرة/رسالة الفيلم هنا، طغت على عناصره الجماليّة والفنيّة. وتاليًا، وضعنا جوش مارستون إزاء فيلم قُدّمت حكايته وفكرته معًا ببساطة أقرب ما تكون إلى الاستسهال، ذلك الذي حاول جوش مارستون تعويضه من خلال رسالته الدينيّة والسياسيّة المواربة، تلك التي لم يُرهق الفيلم نفسه في ابتكار الشكل الذي أراد من خلاله إيصالها. يُضاف إلى ذلك أيضًا أنّ الفكرة في فيلم "Come Sunday" ذاته، بدت منطويةً أساسًا على قدرٍ من التعقيد، باعتبارها فكرة أقرب ما تكون إلى "الهرطقة"، ذلك أنّها تنسفُ بشكلٍ صريح واحدًا من المُعتقدات الدينيّة الصلبة في الديانات السماويّة.

في فيلمه "Come Sunday"، يبدو أنّ الاشتغال على "الفكرة" لا "المحتوى الجماليّ" هو ما يعني المخرج الأمريكيّ جوش مارستون

إذًا، ما يعرضهُ لنا جوش مارستون في فيلم "Come Sunday"، يُخرجنا من إطار "الصورة" ليضعنا في قلب "الفكرة"، تلك التي سوف تشغل تفكيرنا طيلة مشاهدتنا للفيلم، ولا سيما في النصف الثاني منه، عندما تبلغ ذروتها، ويصل وقعها على المتلقّي إلى أقصاه، ليُثبت جوش مارستون مرّةً أخرى أنّ الفكرة/الرسالة هي أساس فيلم "Come Sunday"، عدا عن أنّها أيضًا المُحرِّك الرئيس لحكايته، والمأخوذة أساسًا عن قصّة حقيقيّة جرت وقائعها في الولايات المتّحدة الأمريكيّة في تسعينيّات القرن المنصرم.

اقرأ/ي أيضًا: فيلم "موديلياني".. سيرة الموت اللامتناهي

في افتتاحه لفيلم "Come Sunday"، يحاول جوش مارستون نسج مشهدٍ افتتاحيّ من شأنه أن يُعطي انطباعًا أوليًّا عن الفيلم ومساره. هكذا، سوف يظهر في هذا المشهد جمعًا غفيرًا من الناس في انتظار الكاهن كارلتون بيرسون (شيواتال إيجيوفور)، الذي يصعد درج الكنيسة متّجهًا نحو القاعة، ومنصتًا إلى الكلمة التي يُلقيها أحدهم ترحيبًا به. هذه الكلمة التي وصَفت بيرسون بـ"الوحيد والمتفرّد"، أضف إلى ذلك الموسيقى التصويريّة والمؤثّرات البصريّة، أضفت جوًّا من القداسة لهذا الرجل. وتاليًا، فإنّ جوش مارستون صوّر في هذا المشهد الذروة التي بلغها هذا الكاهن، ليتبيّن أنّ الخطّ الرئيس الذي سوف يسلكهُ الفيلم بعد ذلك، سوف يكون نحو الحضيض، فاقدًا بذلك بيرسون ما صوّره لنا مارستون في هذا المشهد.

هكذا، وعلى هذا النحو، سوف نتعرّف في النصف الأوّل من فيلم "Come Sunday" إلى كارلتون بيرسون؛ كاهنٌ منهمكٌ في الوعظ، سخرّه الرّب، بحسب تعبيره، لإنقاذ البشر من جحيمه، وذلك من خلال الدعوة إلى الإيمان بالمسيح، ذلك أنّ "غير المسيحيين ذاهبين إلى الجحيم"، بحسب الكنيسة المنتمي إليها بيرسون. غير أنّ هذه القناعة المتجذّرة والراسخة عند هذا الكاهن، كما كلّ المؤمنين بالمسيح، سوف تُطيح بها عدّة مشاهد تلفزيونيّة قصيرة تُصوِّر واقع البشر في إحدى الدول الإفريقيّة الغارقة في مستنقع الحروب والمجاعات. ذلك أنّ هذه المشاهد الصادمة، سوف تدفع بيرسون إلى إعادة التفكير بمسألة الخلاص والجحيم، ليخرج بعد عدّة أيام في الكنيسة أمام المصلين ليقول ما فحواه أنّ سكّان تلك البلاد، غير المؤمنين بالمسيح وإنجيله، لا يحتاجون أساسًا إلى الإيمان به لدخول جنّة الرّب، وأنّ الرّب نفسه خلّصهم من هذا العالم/ الجحيم ليرعاهم في كنفه، في الجنّة.

وتاليًا، سوف يستعرض بيرسون التناقضات الموجودة في تفسير آيات الإنجيل، مُعتبرًا أنّ المسيح مُخلّصًا لكلّ البشر، لا المؤمنين به فحسب، ليبدو هنا هازئًا بفكرة أن يزّج الله بمليارات البشر في جحيمه لأنّهم أخطأوا، ذلك أنّ هذا الأمر، في حال حدوثه، لا يقلّ وحشيةً عمّا قام به صدّام حسين وهتلر، مؤكّدًا أنّ هذا الرّب ليس رّبنا، لأنّ ربّنا يحبّنا جميعًا. وبالتالي، ينسف بيرسون فكرة وجود الجحيم، والمُعتقدات الدينيّة المبنيّة على وجوده.

يُمكننا اعتبار فيلم "Come Sunday" مُدوّنةً روائيّة توثيقيّة تسعى إلى طرح وإيصال رسالتها إلى المتلقّي

سوف يعيش كارلتون بيرسون بعد تلك الحادثة نوعًا من العزلة، ليصير لاحقًا منبوذًا من الجميع، ولا سيما روّاد كنيسته التي سوف يخسرها لاحقًا، دون أن يتنازل عن أفكاره هذه، لينتهي الفيلم هنا بمشهدٍ مشابه لمشهد افتتاحه، ولكن دون مؤثّرات بصريّة أو موسيقى تصويريّة أو حشود غفيرة من البشر تُضيف جوًّا من القداسة لشخص هذا الكاهن.

اقرأ/ي أيضًا: تأملات رولان بارت وأداء جولييت بينوش على شاشة واحدة

يُمكننا اعتبار فيلم "Come Sunday" مُدوّنةً روائيّة توثيقيّة تسعى إلى طرح وإيصال رسالتها إلى المتلقّي ببساطة شديدة، دون اعتناء واضح بالشكل، كما سبق وذكرنا، بقدر الاعتناء بالمضمون، والحوارات المكثّفة التي بلورته على نحوٍ عميق أيضًا. وعدا عن رسالته هذه التي لن تروق للكثيرين، ليس ثمّة ما يلفتُ الانتباه في فيلم "Come Sunday".

اقرأ/ي أيضًا:

فيلم "Border Politics".. جوليان برنسايد يحكي محنة اللاجئين المحزنة

"صيف تجريبي".. الشعور بصدق الأشياء أهم من فهمها أحيانًا