07-مارس-2016

من الفيلم

تميل العديد من الأفلام الوثائقية الموسيقية إلى اتخاذ منظور حزين لرؤية حياة الفنّان والعمل على ثيمة الشخص الجيّد الذي أصبحه؛ مُبرزة تلك الجوانب العبقرية الإبداعية الخلّاقة على حساب التجربة الإنسانية بتعقيداتها وثرائها عملًا بمبدأ شائع مفاده: "ما يهمّ فقط هو ما يقولونه عنك، وليس كيف وصلت إلى هنا".

تعد الأفلام الوثائقية التي تعلي من شأن الفنانين خدمة سيئة، لكونها تجعلهم بضائع سهلة البيع بجمل مجانية

في تلك النوعية من الأفلام يخرج الفنّانون إلى الشاشة كقديسين لا تشوبهم شائبة فيتمّ إيجاد الأعذار والمبرّرات لأخطائهم وعيوبهم. الكثير من هذا له علاقة -بالتأكيد- بالمقابلات المنتقاة والمضمَّنة في الوثائقي، وبآخرين لا يريدون الحديث بسوء عن شخص ميّت في تمثّل أمين للحديث النبوي الذي يقول: "اذكروا محاسن موتاكم". النتيجة الأخيرة لذلك النهج يؤدي بالعمل الفني إلى خطاب من النوع الطيّب يُعلي من قيمة الفنانين إلى مستوى الآلهة اليومية، وعادة ما يكون ذلك بمثابة خدمة سيئة لهم لأنه يلغي إنسانيتهم تقريبًا مفرّغًا إياهم بجعلهم بضائع سهلة البيع بجمل مجانية.

اقرأ/ي أيضًا: المغامرون.. في الحياة لا في السينما

هذا ليس الحال مع الوثائقي الموجع الذي أنجزه المخرج البريطاني آصف كباديا عن كاتبة الأغاني والمغنية الراحلة آيمي واينهاوس، الذي -مثل فيلمه الوثائقي السابق عن سائق الفورميلا وان آيريتون سينّا- يتألّف تقريبًا من لقطات أرشيفية مع مقابلات مستعادة تُفرد لها المساحة على الشاشة مع مصاحبة التعليق الصوتي فقط.

يعتمد الفيلم على العديد من المصادر: مقاطع فيديو وصور تخصّ عائلة واينهاوس، وأخرى تمّ التقاطها بواسطة المعجبين في الشوارع والحفلات الموسيقية، ومشاهد وراء الكواليس للفيديوهات الترويجية للمغنّية الراحلة، وصور وتسجيلات مصوّري البابراتزي (وهذه الأخيرة بالذات تحتوي بعض أصعب المشاهد التي يمكن لجمهور واينهاوس رؤيتها، لأنها كانت في سنوات مجدها هدفًا سيئ السمعة للصحافة الفنية).

العارفون والمعجبون بمنجز واينهاوس الموسيقي يعلمون جيدًا أن أغنياتها عادة ما تسمو بالسلوك الإنساني الموصوف بـ"السيئ" والمعاناة الناشئة عنه إلى مرتبة الفنّ، وفيلم كاباديا يرصف طريقه بتشبيك كل تلك المصادر بطريقة خشنة وأحيانًا متكلّفة والاتكال على مسح كرونولوجي لفترات نجومية واينهاوس التي تتراوح بين القمة والحضيض. من بداياتها المبكرة كصوت واعد ينتظره الكثير، مع أسلوب يشابه في مزاجيته نجوم جاز قدامى مثل سارة فوغن ودينا واشنطن وفرانك سيناترا، وصولًا إلى منحدر ما بعد الجرامي والدخول العميق في دوامة مدمّرة من إدمان الكوكايين ومن بعده الكحول.

من يعرفون واينهاوس يعلمون جيدًا أن أغنياتها عادة ما تسمو بالسلوك الإنساني الموصوف بـ"السيئ" إلى مرتبة الفنّ

 الفيلم نفسه ليس خشنًا كمُنتَج أخير، ولكنه بالعكس يمثّل مشاهدة رائعة لكلّ محبّي واينهاوس (على الأقل بالنسبة لي)، والتي تُظهر جوانب كثيرة لشخصيتها المعقّدة: سذاجة ملائكية في بعض اللقطات مع الأصدقاء والجيران المأخوذة من أشرطة فيديو قديمة، قدرة حادة على الرفض كما يظهر في حوار مع أحد الصحفيين السخيفين، وتواضع ومحبّة حقيقيين عند تسجيل أغنية مشتركة مع أحد أساطير مراهقتها، توني بينيت.

اقرأ/ي أيضًا: Meet the Syria.. فنون الشتات السوري

في الفيلم، تبدو تأدية واينهاوس لأغانيها كمصدر وحيد للراحة (خلال أغلبها يقوم كاباديا بإظهار الكلمات على الشاشة كما كُتبت بخط واينهاوس في دفتر مذكّراتها)، ولكنها كانت غير مُجهّزة كلّية للتعامل مع الحشود الزائرة لتحيّتها عقب إصدار ألبومها الثاني "باك تو بلاك" في 2006 والذي نال الكثير من المديح.

رؤية الطريقة التي حاولت بها الابتعاد عن كاميرات المصوّرين المتربّصة خارج منزلها بحي كامدن اللندني الراقي؛ تكشف حقيقة مبدئية عن هذا الكائن الهشّ الرقيق والمخلص لنقصه الإنساني الذي لا يستطيع تحمّل الضغط المستمرّ من العالم الذي يعيش بداخله وينتظر له كلّ هفوة لـ"يفشخه" فيها. في أحد المشاهد يظهر مذيع أمريكي تافه من هؤلاء الذي يقدّمون برنامجًا في سهرة السبت ليسخر من واينهاوس بعد دخولها دوامة الإدمان، وهو نفسه المذيع الذي استقبلها قبل عامين للاحتفاء بها في جولتها الفنية الأولى بأمريكا، مثل هذه الوقائع والمشاهد تثير الغثيان فعلًا.

هذا ليس بالشيء الذي يُذكر بالمقارنة بأكثر مشهدين مؤلمين في الفيلم. المعجبين بالتأكيد يعرفون (أو يتوّقعون) أولهما، وفيه تنهار واينهاوس تمامًا على خشبة المسرح خلال حفلة موسيقية في صربيا، والذي يُظهره كاباديا من منظور الحاضرين أنفسهم من خلال فيديو قام بتسجيله أحدهم بواسطة موبايله. صيحات الاستهجان التى قوبل بها سلوكها الغريب كان بمثابة بورتريه مُحبِط لهؤلاء المحبّين الذين ينقلبون فجأة على معبودهم. (ما أغرب الشهرة).

الألم المتكرّر هو جزء لا يتجزّأ من المتعة والمحبة الصافيتين في أعمال واينهاوس

وأما المشهد الثاني فالقليل كان معروفًا عنه حتى ظهور الفيلم: في أثناء أخذها عطلة للتعافي من الإرهاق وكمحاولة لإعادة تأهيل أخيرة في أحد المنتجعات الاستوائية النائية، دخلت واينهاوس في حالة من التوتر بعد التقاطها صورة مع اثنين من المعجبين حين لاحظت أنها في مجال كاميرات أخرى. هذه الكاميرات كانت تخصّ والدها (ميتش) الذي أتى بطاقم تصوير كامل لإنجاز ما يشبه فيلمًا وثائقيًا عن حياته!

ميتش، الذي لن يتذكّر مشاهدو الفيلم أية حسنة له في حياة ابنته، خرج مع عرض الفيلم ليعلن عن رفضه له. ميتش لن يتورّع عن توبيخ ابنته النجمة على حدّتها (؟) على مرأى ومسمع من طاقم التصوير بأكمله. لا يُلقي ذلك الأبّ المغرور بالًا لهموم ابنته ولا محاولتها الباسلة في الابتعاد عن كل هؤلاء الذين يطاردونها بفلاشات كاميراتهم حتى ليبدو للمُشاهِد أن أقرب الناس لهم أجندتهم الخاصة أيضًا.

هذا الألم المتكرّر هو جزء لا يتجزّأ من المتعة والمحبة الصافيتين في أعمال واينهاوس، وهي نفس الفكرة المؤلمة التي يحاول الفيلم دفعنا للتفكير والتأمّل بشأنها.

اقرأ/ي أيضًا:

9 تشكيليين رسموا الست.. تلوين صوت الزمن

جعفر بناهي.. سأحلم بعالم حر