09-أغسطس-2016

فيلم من فيلم وحوش بلا وطن للمخرج كارى جوخى فوكونايا

خلال مشاهدتي لأحد الأفلام التوثيقية للحرب العالمية الثانية، جاء على لسان أحد الجنود، آنذاك، جملة رغم قصرها وقلة كلماتها إلا أنها تلخص تأثير الحرب على الإنسان، لا سيما الشباب، حيث قال: "ما إن أطلقت أول طلقة على جندي ومات شعرت أنني تحولت من صبي إلى رجل". ويبدو أن العالم لا يتغير حيث تظل الحروب هي ما تحكم عالمنا، وهو ما أكده "أجو" الصبي الذي لم يتجاوز العاشرة: "لقد قتلت رجلا!"، تلك الجملة التي حولته من صبي بسيط لا يهتم في الحياة سوى باللهو واللعب إلى رجل يحمل على عاتقه دماء الآخرين.

"أجو" هو بطل الفيلم الأمريكي "وحوش بلا وطن Beasts of No Nation" الصادر في أواخر عام 2015، لكاتبه ومخرجه ومدير تصوير أحداثه Cary Joji Fukunaga، والذي يُسيّر فيلمه الجديد في سبيل البحث عن حقيقة الروح الضائعة وسط ويلات الحرب الضاربة بشعوب العالم، من خلال تقديمه للرواية التي تحمل الاسم ذاته للكاتب النيجيري الأمريكي "أوزودينما إويلا-Uzodinma Iweala " والصادرة عام 2005.

دون ذكر أسماء

العالم بأكمله بات على صفيح ساخن وما إن تنتهى حرب حتى تبدأ أخرى، لهذا فغياب اسم البلد التي تدور بها أحداث الفيلم يضفي على العمل سمة العالمية

تتكشف أحداث الفيلم وسط أطفال صغار يحاولون اللهو ضمن نطاق حياتهم البائسة في بلاد تعج بالحروب، وذلك ضمن نطاق أحد بلاد الغرب الأفريقي (غير مذكور اسمها)، هناك تدور أحداث الفيلم، في إشارة إلى أن حدث الحرب الأهلية لا يتوقف عند حدود دولة في القارة السمراء وحدها، حيث العالم بأكمله بات على صفيح ساخن وما إن تنتهى حرب حتى تبدأ أخرى دون هوادة أو صبر، لهذا فغياب الاسم يضفي على العمل سمة العالمية.

وسط الأسلحة تصمت القوانين

تلك المقولة التي تصف حالة الحروب، فالسلاح يمنح القوة والنفوذ، ليعود قانون الغابة القديم، حيث البقاء للأقوى حتى وإن افتقدت الحياة للعدالة. فيصمت قانون العدل المنادي بحق الطفل "أجو" في الحياة وافتقاره إلى أساسيات العيش البسيطة. فالحرب حولته من فاعل إلى مفعول به، لم يقرر مصيره بيده، فتم قتل أبيه وأخيه واغتراب عائلته، لم يكن أقصى ما تعرض له، إذ إن الحياة اشترطت عليه أن يتحول إلى وحش حتى يستمر فيها.

اقرأ/ي أيضًا: كريستيان بيل: لا أعتقد أنّي خلقت من طينة المشاهير

الثمن والمقابل

يوضح الفيلم ضمن أحداثه التي تتجاوز الساعتين، أن الحياة ليست سهلة للعيش، بل هناك مقابل لابد من دفعه، وهو ما اختبره أجو في تجربته، حيث كان عليه القتل ليعيش، كما كان عليه أن يُستغل من قائده ليكون ضمن صفوة الجنود، تلك التجارب التي لا يستطع هذا الصبي الصغير أن يمحوها من ذاكرته بمجرد نجاته من موت محقق.

السرد

يأتي السرد على لسان "أجو" الذي يحول ما نراه بالشريط السينمائي إلى وصف حي لمشاعره المتخبطة ما بين الحق والباطل في مشوار النجاة من الموت. أكسبت عقلية الصبي الصغير "أجو" ملمحًا مختلفًا للفيلم، ملمح يلمس بقوة الجوهر الذي يقوم عليه العمل ككل، إذ تكشف المونولوجات الطويلة نسبيًا والتي تأتي على لسان أجو كيفية تحول البراءة إلى حقل دمار وخراب، كما تسرد الحرب بعيون الصغار الذين لا ينالهم سوى الحياة البائسة في نهاية المطاف.

طقس العبور

كما هو الحال في قرى أفريقيا الحارة نجد الصغار يمرون ضمن تجربة لا تنسى يطلق عليه اسم "طقس العبور" وهو الطقس الذي يحولهم من صبية إلى رجال بالغين. يمر "أجو" ورفاقه الصغار بهذا الطقس، ولكن الفارق هو أن العبور عادةً ما يكون إلى حياة جديدة، بينما الطقس الذى حضره أجو ورفاقه كان كبوابة عبور إلى الموت والعدم.

ولا يقف "التأهيل" عند هذا الحد فحسب، بل نجد الحوار الذي أعده Cary Joji Fukunaga يكشف عن فهم عميق لماهية التعامل مع المنضمين الجدد وتحويلهم لوحوش، بداية من الطاعة العمياء للقائد "الكوماندو"، ووصولًا إلى القتل عن قناعة لأنه الحق. فيكشف العمل أن القتل لا ينحصر على فئة أو طائفة بعينها وإنما هي النفس البشرية التي تتلوث بشوائب الفكر الدموي.

اقرأ/ي أيضًا: تصنيفات الأفلام وما تعنيه للجمهور

من يدير الحرب؟

يطرح العمل ضمن أحداثه تساؤلًا ويجيب عنه وهو "من يدير الحرب؟ لنجد أن الحرب التي تنطلق مع الرصاصة الأولى التي تخرج من البندقية يمكن أن تقف وفقًا للمصالح الدولية الكبرى. فنجد أن الكوماندو الذي يصوره الفيلم أنه الرأس الكبرى في تلك اللعبة الدامية ما هو إلا دمية تتحرك وفقًا لمصالح يحددها من هم أكبر منه مكانة في تلك الدائرة القاتلة، ويتحول من فاعل وموجه لهؤلاء الصبية القاتلين إلى رجل ضعيف لا حول له ولا قوة ليفقد -فى النهاية- السيطرة على من يتبعوه من جنود. ولتتجدد الحرب من جديد وفقًا للرغبة بالقتل التي باتت تجري في عروق هؤلاء الصبية والشباب، لتكن الحرب صفحة لا تنطوي من كتاب أسود. ويتساءل معها أجو: ما ذنبنا ولماذا نلقى كل هذه المعاناة؟

 

يصعب تخيل أن تكون نهاية الحياة أفضل من العيش تحت لواء الظلم والتهديد، ولكنه حال القارة السمراء كما يصورها المخرج كاري جوخي فوكونايا

حينما يكون القتل رحمة!

يصعب تخيل أن تكون نهاية الحياة أفضل من العيش تحت لواء الظلم والتهديد، ولكنه حال القارة السمراء كما يصورها Cary Joji Fukunaga، أما عن الصورة فتعتبر أحد حسنات العمل حيث تمتاز بالنقاء والحركة المعبرة عن حالة التوتر والهدوء الذي يسبق العاصفة، كما انتقى Cary Joji Fukunaga لقطاته بصورة مميزة منحت الفيلم خصوصية، واتسقت مع رؤية السارد الصبي أجو. وعن خصوصية لقطة البداية نجد أننا أمام شاشة تلفاز تنقل لنا أحداث تلك الحياة، في تصوير خاص يجعلنا نستشعر أننا سنتلصص على عالم هؤلاء الذين يعانون دون أن يسمعهم أحد، وتظل صورهم عالقة على شاشات التلفزيون دون انتباه.

موسيقى الفيلم للموسيقي Dan Romer مثلت عنصرًا حاضرًا هامًا لا سيما وسط المونولوجات التي تخللت المشاهد والتي سرد بها "أجو" مشاعره ورؤياه عما يحيطه من أحداث، امتازت الموسيقى بخفة إيقاعاتها، وبساطة جملها اللحنية، إذ لا تعتبر عنصرًا يتأمله المشاهد فى ذاته بل يحضر كخلفية بسيطة. ويختتم الفيلم مع أغنية من أعماق أفريقيا تعبر عن حالة الرغبة في الحياة والتيه الذي أحاط بـ"أجو" بعد أن كتبت له النجاة.

أما عن إيقاع العمل فالفيلم الذي تجاوزت مدته الساعتين وقع أحيانًا في فخ المماطلة، مع هذا لا يمكن الحكم بأنه يفتقر إلى الإيقاع المتوازن في أغلبه، فالإيقاع الذي يفقد للحدث في بداية الفيلم سرعان ما تحوله الأحداث إلى سيل لا ينتهي، كما لعب المونتاج لـ"PeteBeaudreau، Mikkel E. G. Nielsen" دورًا كبيرًا في إنقاذ الفيلم من فخ الإيقاع المترهل، ليندمج المشاهد مع الأحداث شيئًا فشيئًا.

الحلقة الأقوى

أما التمثيل فيعتبر هو الحلقة الأقوى ضمن حلقات تكوين فيلم وحوش بلا وطن، إذ يحضر أداء الصبي الغاني"Abraham Attah" الذي لعب دور "أجو" صارخًا بالمصداقية، سيما أنه يعتمد البساطة في الأداء والسلاسة في التعبير، حتى استطاع اصطياد خمس جوائز لأدائه هذا الدور الرئيسي، ومن أبرز تلك الجوائز جائزة أفضل ممثل ضمن جوائز غانا للفيلم. كما لعب الإنجليزي المخضرم Idris Elba دور الكوماندو الذي يلعب دور البطولة الموازية للطفل أجو، بأداء وازن ما بين الانفعال والهدوء، منتقيًا اللحظات التمثيلية الصحيحة التي أضفت على الدور رهبة حينما مثل دور القائد الذي لا يقهر وخيبتنا فيه بعد أن وضحت ملامح شخصيته الهشة أمام من يعلوه.

بالنظر إلى فيلم وحوش بلا وطن نجد أن الفيلم ليس الأول الذي يتناول أزمة الحروب الأهلية في القارة السمراء إذ سبقه على سبيل المثال لا الحصر، فيلم "Hotel Rwanda" وكذلك فيلم "The Last King of Scotland" وكل منهم جسد بهدوء بالغ مأساة الأفارقة ومصيرهم المتأرجح ما بين الموت والحياة، موضحًا معاناة الأفراد وانعكاسه على حياتهم. بفيلم وحوش بلا وطن نفتقر إلى روح أفريقيا رغم تصويره بموقع أفريقي خالص وهو دولة غانا، إلا أن الفيلم يفتقر إلى المعايشة الخاصة، وكأنه ينظر إلى الواقع الأفريقي بعيون خارجية، وهو عكس ما يقدمه الفيلم من نظرة "أجو" الكاشفة للحدث.

اقرأ/ي أيضًا:

مارلين مونرو.. طوبى للجمال الخالد

التانجو الأخير في باريس.. الجنس وسيلة للهروب

اشتباك.. من مقعد المشاهد