27-يونيو-2019

من الفيلم (IMDB)

لا تبدو بعض المفردات مثل المدينة والهوية، الزمن والسيرة الذاتية، مفرداتٍ سهلةً ومفهومة في عالم المخرج السينمائي الفلسطيني إيليا سليمان، كما لا تبدو الكتابة عن رؤيته لهذه المفردات وطريقة تعامله معها بالأمر الهيّن.

إيليا سليمان مخرج الحكايات التي مرّ عليها الزمن، والمدن التي لا يمر فيها الوقت

يقدّم إيليا سليمان حكاياته الفلسطينية بكلّ ما فيه من حسٍّ فني، يصعب علينا أن نفكك أو نرصد مدلولات كل اللوحات السينمائية الفنية ذات البعد النفسي والتي يقدمها متضمنة قراءة سوسيولوجية عن الوقت الذي نعيش فيه.

اقرأ/ي أيضًا: إيليا سليمان.. كيف تصل العالمية بثلاثة أفلام فقط

يُجيب سليمان من خلال ذلك الحس وعبر السينما عن سؤال مطروح في كل زمان ومكان، الفن والأزمات، والأسلوب الذي يتم عبره روي حكاية ما عن عالمٍ مأزوم. اختار كوميديا المواقف والشخصيات، مع العودة إلى البداية لسرد بعض المفاصل التاريخية، أو الوقوف عند اللحظة الراهنة، أو الاثنين معًا.

لا يعتبر مخرجًا غزير الإنتاج، لكنه مخرج نوعيّ وأصيل، تحتاج أفلامه وقتًا كافيًا للتأمل فيها والوقوف عند طريقته في رسم الشكل الواقعي للحياة في مدينته الناصرة. هو مخرج الحكايات التي مرّ عليها الزمن، والمدن التي لا يمر فيها الوقت، محافظًا على نواة الحكاية الأولى يعود إليها كل فترة ليلقى نظرة على ماذا حلّ بها، لذلك لم يتغير الفيلم الفلسطيني الذي عرفناه من عدسة إيليا سليمان، ولكن الرؤية والعدسة اتسعت، فضاقت العبارات وصَمَت البطل واكتفى بالنظر.

فيلم "لا بُّد أنها الجنة"، الذي عُرض في مهرجان كان هذا العام، لم يمّر دون أن يضع عليه المهرجان إشارته، فأعطاه جائزة خاصة، من شأنها لفت الأنظار، وكان قد حصل على جائزة النقاد أيضًا على هامش المهرجان. أفلام إيليا سليمان هي مهرجان بحد ذاتها حقيقةً، مهرجان نفسي وجائزة إنسانية تبتهج من خلاله مع نفسك، التحضير للذهاب إلى الفيلم يضعك في احتمالات كثيرة، تتلهف وتفكر بالذي ستراه، وفي الطريق تستذكر الأفلام الثلاثة السابقة التي ضحكت فيها كثيرًا وفهمت مسائلة فلسطين ولم تفهم أشياء أخرى، تستذكر أيضًا مدينة الناصرة وتربطها بكل تلك الصور التي تأتيك من بلادك، أو كنت قد شاهدتها بأُم العين، أنت ابن الأرض المنتهكة والمحروقة اليوم لا يغنيك شيء عن التحديق والانتظار، فيما الوقت يمر وأنت ضد النسيان. ربما هذا آخر انطباع كان من فيلمه قبل الأخير "الزمن المتبقي" 2009 الذي أعادنا إلى أول حكاية احتلال فلسطين، ودفعنا للتساؤل لماذا جرى ما جرى، اليوم مع الفيلم الجديد أنت أمام الجنة، لكنك غير متأكد من حقيقتها.

يُجرّد إيليا سليمان فكرة المكان ويكثفها، يتساءل من قلب جنته وعبرها، ما هو المكان المناسب ليعيش عليه الإنسان المأزوم اليوم؟ ويعمم أسئلته على كل من يشبهه، فتمسنا تلك الأسئلة، لتبدو صيغة البحث عن الجنة تلك، بعيدةً عن سؤال الجغرافيا "أين أعيش؟"، بوصفها حاجة لفهم علاقة الفرد مع المجتمع الذي يعيش فيه، وتطرح سؤال أبوّة وبنوّة بين الإنسان والأرض التي يعيش عليها، لذلك جنة إيليا سليمان هي مكان السؤال والتأمل.

كيف صارت الحياة في الناصرة؟

في مشهد افتتاحي كرنفالي تهكميّ من مدينة الناصرة التي تركناها في فيلم "الزمن المتبقي" في المستشفى، حيث يودع بطلنا أمه صامتًا متأملًا، يوجه المخرج من خلال ذلك المشهد عين العالم إلى قدسية مكان معروف، ولكنه غير قابل لا للتأثير ولا للتأثر. الناصرة ما زالت كما هي، لم تتغير، وانغلاقها على خصوصيتها زادها مللًا، وهذا لا يدعو للاستغراب، إنما هو عتبة يدخل منها سليمان في الفيلم الجديد وكأنه يعيد علينا الحكاية، ويقول إلى الآن لم يحدث شيء.

تبدو عاصمة الأنوار في عيون إيليا سليمان، بين الصورة المنمطة والواقع والحدود بينهما شفافة للغاية

من منا لا يتذكر الجار، في فيلم "الزمن المتبقي" الذي قام بدوره الممثل الفلسطيني طارق قبطي، صاحب مقولة "جارنا عندي نظرية" نظرية فريدة تهدف للتخلص من إسرائيل، تحولت إلى نكتة مضحكة يحفظها كل من شاهد الفيلم، هذه الشخصية رومانسيّة الطابع، تقدم مشاهد من نوع كوميديا المواقف والشخصيات، لا تتحمل كل ما يجري حولها، لا تشبه محيطها من أهل الناصرة الذين اعتادوا على كل شيء، لكن الجار الذي لم يعتد ذلك في كل مرة يفكر فيها بخسارة الأرض يقرّر أن يحرق نفسه، ليدخل في دوائر متقاطعة من التوقد الفكري الذي ينتج كوميديا خالصة.

اقرأ/ي أيضًا: لمن ذهبت جوائز مهرجان كان السينمائي لهذا العام؟

يعود لنا في الفيلم بنظريات أقل عن التحرر ولكن ما زال الخيال متوقدًا، وجد خلاصه في الحكايات عن اللامعقول التي تنفع لشخصية العربي المهزوم والمنسيّ. مفردات الحياة المتبقية في الناصرة على ما هي عليه، البيت فارغ بعد وفاة الأم، والبطل يتابع رحلة فيلمه الذي لم ينتهي منذ فيلم "يد إلهية" 2002. ولكن الآن تقرّر شخصية البطل، الفنان البحث عن طريقة للتعبير بأدواته عبر استكمال الفيلم، بعد أن عاش ما عاشه من تجارب في مكان مخنوق ومحدود، آن الأوان ليجد متنفسًا لفنه في عاصمة الفن باريس. فتبدأ رحلته إلى الجنة المفترضة.

باريس طابع بريدي في عيون الغريب

تبدو عاصمة الأنوار في عيون إيليا سليمان، بين الصورة المنمطة والواقع والحدود بينهما شفافة للغاية. في مشاهده تلك دروس بصرية مستقاة من أفلام المخرج الأمريكي ويس أندرسون، وأبعاد متساوية لشخص موجود في منتصف الكادر. في صورة سليمان نجد معنى متحولًا على الدوام يساعدنا في فهم شخصياته الواقعية، مفهومة ولكن غير متوقعة، صامتة متأملة، قليلة الحركة، ونجد مساحة كافية للنظر في مواجهة كل ما لا يمكن أن يخطر على بال سائح أو غريب في مدينة باريس، ولكن إذا امتلك هذا الغريب عين السينما فسيرى ما لا يراه الآخرون، وهذا ما أبعده عن نمطية الصورة ووضعه ضمن صورة أكثر جدليةً، كمهاجر، لاجئ، غريب، ومفردات أخرى جديدة دخلت على الصورة الثقافية للشخصية العربية، احتاجت الكثير من الوقت للتفكير والبحث فيها، يقدمها إيليا سليمان عبر مدينة باريس، المدينة التي تبدو في عينيه مثل صورة ثابتة على طابعٍ بريديّ، لا زحام ولا فوضى، كل شيء منسق واستثنائي، نسائها، شوارعها، نظافتها، وحتى مشرديها، كل شيء مرسوم بأدق المعايير.

المدينة المتروبول تبدو على عكس حقيقتها، مطبوعة بصياغة دقيقة من الأفكار المسبقة والتسميات التي عملت على تنميط صورتها، مثل مدينة الحب والأنوار والسحر وغيرها من مفردات تؤطر صورة باريس في عيون الغرباء، مع عروضٍ عسكرية احتفاليّة كالتي تظهر في الأفلام، تعج سمائها بالطائرات التي تلون المشهد، تسير فيها جحافل الدبابات والمدرعات أمام صروح المدينة التاريخية السياحية، هذه المناظر تبدو مألوفة لعين الشخصية/المخرج الذي يقف متأملًا، فهو ابن مكان يحفل بمثل هذه الصور، إلاّ أن انعكاساتها في مخيلته تحمل بعدًا حربيًّا بالمطلق. وكأن العالم كله امتلك ذات الأدوات ويريد التعبير من خلالها. فبدت صورة مدينة باريس استثنائية ومفتوحة على التساؤل، نمطية ومنغلقة في ذات الوقت.

نجح سليمان في أن يجد مفردات الناصرة في مكان آخر، وبأسلوبه الخاص حفر صورًا لذاته الفلسطينية المتأملة كثيرة السؤال، الخاصة والممتدة باتساع على طول سنوات الاحتلال. فلسطين كبرى تحل أينما حلّ الفلسطيني، وجعل منها حالة عامة يلبسها كل إنسان يتقاطع مع الإنسان الفلسطيني والعربي عمومًا، كيف لا وهو الذي يرى العالم كله وقد "تفلسطن". يلفت سليمان نظرنا إلى أن العالم واحد في عيون المُهجر واللاجئ والمنفيّ.

نيويورك أشد خطورة مما تبدو عليه في أفلام هوليود

منطق حضور السلاح في فيلم إيليا سليمان ليس فيه بعدًا أخلاقيًّا على الإطلاق، إنما هو صور ذهنية تتبادر إلى مخيلة الغريب الذي يعيش وسط العولمة، غريب عن مكان ما، ومشبع بمكانٍ آخر يحاول إيجاد الرابط والمنطق لما يجري في العالم.

نيويورك ليست بعيدة عن الناصرة في الفيلم، بل هما متشابهتان في أدق الجزئيات، بل يمكن أن نجد القضية الفلسطينية حاضرة فيها بطريقة قد لا تختلف عن حضورها في فلسطين.

كأن المخرج يأخذنا إلى عواصم كبرى في العالم، ليطلعنا على شمولية قضية فلسطين، ونتفق معه بأنها تدخل في تكوين النواة الأولى لفهم قضية التحرر في العالم، وهذا ما يجعلها ضرورة ليس فقط من وجهة نظر الإنسان العربي، فقضية فلسطين تمس كل إنسان حتى أقلنا اهتمامًا بالسياسة. ما يبدو من المجدي قوله هو تأكيد سليمان بطريقته الفنية على شمولية القضية وضرورة وجودها في تكوين الفكر التحرري. يبدو ذلك في الفيلم عبر تقديم صورة كوميدية وفلسفية، خاصة واستثنائية للمواطن الأمريكي، الناس في شوارع نيويورك التي يحملون الرشاشات على أكتافهم، يتسوقون بأسلحتهم، يحمّلون المدافع في صناديق السيارات، إلاّ أن أدوات الحرب تلك لم تؤثر على السلوك وطريقة الأداء.

إيليا سليمان واحد من المخرجين القلائل الذين عبّروا عن الشخصية العربية وتغيراتها

نحن في يوم عادي من أيام المدينة، لا يحدث أيّ شيء غريب هناك، الغريب في الأمر هو نحن، جمهور الغرباء، نتشارك مع بعضنا كمشاهدين عرب نهتم بمشاهدة فيلم لمخرج فلسطيني يريد أن يجد منتجًا لفيلمه عن وطنه في مدينة نيويورك. رؤية إيليا سليمان لمدينة نيويورك تشبه ما اكتشفناه عن مدينة باريس، إلاّ أننا لم نستغرب فحضور مفردات الرعب تلك نحن أكثر من يعرفها، لتصبح مدينة نيويورك في الفيلم الجديد تشبه الناصرة كما بدت في فيلم "الزمن المتبقي"، أو مدينة دمشق في السنوات الأخيرة، أو حتى بغداد أو صنعاء أو طرابلس، ولكن ما جعل تلك المشاهد كوميدية بالنسبة لنا هو أنها تقع في نيويورك ونشاهدها عبر عيون إنسان عربي مهزوم، بينما تلك المشاهد باتت سلوك يومي في العواصم العربية وقد اعتدنا عليها. يمكن أن نؤكد فرضية أن إيليا سليمان لجأ إلى تفاصيل معينة ليعبر عن رؤية الإنسان الفلسطيني للعالم اليوم، ويؤكد عبر تلك الرحلة الفنية إلى الجنة أن كل العالم فلسطين.

اقرأ/ي أيضًا: "علي ونينو": روميو وجولييت في أذربيجان

من المجدي الاعتراف بأن كل تلك الصور التي بدت عليها مدن العالم، تقف وراءها تجربة المنفى التي عاشها وما زال إيليا سليمان، فهو يعيش متنقلًا بين الناصرة وباريس ونيويورك، محاولًا البحث عن الجنة التي تسمح له بقول ما يريد قوله، فتتجلى تلك الجنة في صناعة فيلم من عيار لا بُّد وأنها الجنة، وتختلط فيها تجربة الوطن، الاحتلال والمنفى. ليصل عبرها المخرج العربي الفلسطيني لصياغة مقولته الخاصة عن التحرر والنضال بالتأكيد على خصوصية القضية وشموليتها في آنًا معًا. وبذلك يكون إيليا سليمان واحدًا من المخرجين العرب القلائل الذين عبّروا عن الشخصية العربية على مدار عقود، وعن تغيراتها ومآلاتها وحساسيتها بالعلاقة مع تاريخها والأمكنة الجغرافية والنفسية التي حلّت فيها.

 

 

اقرأ/ي أيضًا:

القضية الفلسطينية في السينما المصرية..سؤال التطبيع والالتزام

فيلم "واجب".. الصراع في اليوميات الفلسطينية