28-فبراير-2018

من الفيلم

اختفاء طفل هو الـمُـحَـفِّـزْ لتوجيه الاتهام لانهيار الأسرة الوحشي في فيلم أندريه زياغينسيف المُرشح لجائزة الأوسكار والذي نال استحسان الجميع. هنا مراجعة نقدية مترجمة.


يوجد مشهد في بداية فيلم "غياب الحب - Loveless" المرشح لجائزة الأوسكار للمخرج الروسي أندريه زياغينسيف، استحوذ على تفكيري منذ أن رأيت الفيلم لأول مرة. يظهر فيه زوجين في خضم انفصال فوضوي يتجادلان بمرارة بشأن أي منهما سيتولى تربية طفلهما الصغير، الذي يُمثل عبئًا ثقيلًا لا يرغب أحدهما في تحمله. وبينما يتجادلان، يُغلق الباب وتراقب الكاميرا في هدوء الطفل الذي انشغل عنه والديه ولم يروه، واقفًا في الظلال، مرتديًا ملابسه التحتية البيضاء التي تُبرز بنيته الرقيقة، باديًا على وجهه صراخ صامت بسبب شعوره بالألم لكونه غير مرغوب فيه.

اختفاء طفل هو الـمُـحَـفِّـزْ لتوجيه الاتهام لانهيار الأسرة الوحشي في فيلم أندريه زياغينسيف المُرشح لجائزة الأوسكار

عبر ذلك المشهد عن رؤية مرعبة - فهو يُمثل ذلك الشقاء واليأس الذي يعود بنا إلى أيام السينما الصامتة، وإلى الشعر النقي الذي يتناول السرد البصري لقصة. كما أنها دلالة على أحداث الفيلم التي قامت بدقة شديدة، بتشريح الجثة المتجمدة لذلك المجتمع الأجوف على كافة المستويات الشخصية والوطنية والعالمية. قارن زياغينسيف فيلم "غياب الحب" بالفيلم السويدي الرائع "مشاهد من الحياة الزوجية - Scenes From a Marriage" للمخرج إنغمار برغمان، ولكنه ممزوجًا بصورة حتمية مع روح فيلم "لافينتورا- L’Avventura" للمخرج الإيطالي مايكل أنجلو أنطونيوني، وبالمثل وجدت نفسي أتذكر الفيلم الذي يُفطر القلوب "دع الشخص الصحيح يدخل Let the Right One In" للمخرج السويدي توماس ألفريدسون.

اقرأ/ي أيضًا: الفيلم الروماني "لا تلمسني" يحصد الدب الذهبي في مهرجان برلين

تُعد شخصية الابن أليوشا (الممثل ماتفي نوفيكوف) البالغ من العمر اثنا عشر عامًا، هي الروح الضائعة في وسط هذه الدراما، التي شارك في كتابتها زياغينسيف مع كاتب السيناريو أوليج نيجين الذي يعمل معه دائمًا. يمر أليوشا خلال رحلته من المدرسة إلى المنزل عبر منطقة الغابات المُحاطة بشريط قديم باللونين أحمر وأبيض، مما يُشير إلى مسرح جريمة أو منطقة خطر في تلميح إلى إحدى قصص الأخوان غريم. أما والد أليوشا، بوريس (الممثل أليكسي روزين)، فقد كان في علاقة مع امرأة صغيرة في السن كانت حامل بطفله. وفي الوقت نفسه، بدأت والدته، زينيا (الممثلة مريانا سبيفاك)، في علاقة عاطفية مع رجل ثري يكبرها في السن، والذي كان يطلق عليها "الوحش الأروع في العالم". تقول زينيا بكل صراحة "أنا لم أحب أي شخص بحق من قبل“، معترفةً بأنها تشعر "بالنفور" عند رؤيتها لطفلها الصغير.

ثم يختفي أليوشا بطريقة مشابهة لما حدث في رواية The Child in Time للمؤلف إيان ماك إيوان، إلا أن والديه لم يلاحظا ذلك حتى اتصلت المدرسة للإبلاغ عن غيابه. ولم تهتم الشرطة كما أنها غير مؤثرة (دائمًا ما يظهر ذلك بصورة متكررة في أفلام زياغينسيف)، وتُرك الأمر في يد مجموعة من المتطوعين لتولي مهمة البحث عن الصبي، وإجراء مقابلات مع الجيران، والبحث في الغابة، ووضع ملصقات "مفقود" في الشوارع.

تميز المتطوعون بكونهم لائقين ومتحمسين، إذ كانت مهمتهم الأخلاقية على النقيض مع دوامة حياة الضواحي المجردة من الإنسانية. أما بالنسبة للوالدين، فإن اختفاء طفلهم بالكاد أضفي مزيدًا من الوضوح على استيائهم الشديد، مما يزيد من حالة "غياب الحب" التي (قيل لنا) أن المرء لن يستطيع العيش معها.

رسم زياغينسيف في فيلمه الأول، "العودة -The Return" من إنتاج عام 2004، صورة قوية للتباعد والقطيعة في علاقة الأب والأبن، وظهر الفيلم بدرجات اللون الرمادي وكأنه حلمًا يصعب تذكره. وحول في أحداث فيلمه "إيلينا - Elena" من انتاج عام 2012، الدراما العائلية المتعفنة إلى دراسة باردة للروابط الأسرية القاتلة في مجتمع مفكك. وفي عام 2014، عرض زياغينسيف في فيلم "ليفياثان - Leviathan" (الذي رُشح لجائزة الأوسكار لأفضل فيلم بلغة أجنبية مثل فيلم غياب الحب)، صورة سامة واضحة عن روسيا التي تُسحق فيها حياة الأشخاص العاديين وتمزق بسبب الفساد المؤسسي.

تجمعت كل هذه الموضوعات في هذه الحكاية عديمة الشفقة التي تستحضر حالة من تطهير الآثام، التي تسيطر عليها السلطات عديمة الجدوى والديانة المُلحدة. في عبودية لتطلعات فارغة من الحياة الحديثة ("التي تسعى إلى الحب والتقاط الصور الشخصية!")، تصف قصة زياغينسيف عن بوريس وزينيا بوضوح "علاقة زوجين من ​​الطبقة الوسطى خالية من أي وعي ذاتي حقيقي أو شك". وتعبر عن تلك البيئة الخالية من المشاعر في عصر ما بعد الثورة الصناعية، التي أصبحت فيه السعادة سلعة، مثلما أصبح الاستقرار الأسري رمزًا للمكانة.

فيلم "ليفياثان - Leviathan" صورة سامة عن روسيا التي تُسحق فيها حياة الأشخاص العاديين وتمزق بسبب الفساد المؤسسي

ومن السخيف أن رئيس بوريس في العمل يُدير مكان العمل بروح مسيحية صارمة، إذ تُعد السعادة العائلية بالنسبة له، ليست هدفًا للحياة ولكنها إحدى متطلبات العمل، وتُمثل واجهة ينبغي الحفاظ عليها مهما كان الثمن. وفي الوقت نفسه، تذيع المحطات الإخبارية قصص عن "المشاعر الكارثية" والحروب الزاحفة، التي تُمثل الضجيج في خلفية العالم الذي تنتابه حالة من الاضطراب.

اقرأ/ي أيضًا: فيلم "البداية".. مجتمع صغير وإسقاطات كبيرة

كما تتطور الدراما العائلية لتصبح تحقيقًا مُشوقًا، يتعاظم الشعور بالرهبة الوجودية، مما يقودنا إلى مخبأ بعيد لأحد الأجداد الساخطين، وإلى المباني المهجورة التي قد يلجأ للعيش فيها الأولاد المفقودين (والتي يوجد العديد منها) بعيدًا عن الحياة المنزلية غير الصحية. وفي خضم كل ذلك، تُجري كاميرات المصور السينمائي ميخائيل كريشمان تحقيقًا خاصًا بها، حول مساحة صغيرة من جذر شجرة، وتحلق فوق المياه الموحشة.

إذ تشعرك تلك المشاهد بتأثير غير مريح على الإطلاق: يعبر عن الحزن والرهبة، ويجعلك تُفتتن به بطريقة غريبة.

 

اقرأ/ي أيضًا:

فيلم "The Virgin Spring": بيرغمان مترددًا

فيلم "الأبدية ويوم".. الشاعر والطفل