29-مارس-2017

لقطة من الفيلم

تشرق الشمس بعد سنوات عديدة من الحرب الأهلية على إحدى القرى ولكنها لا تصل إلى ذلك البيت، كما يمر بجانبه الجميع ولا يدخلون إليه، بقي متروكًا ومهملًا يشهد على ما جرى فيه، تحوم فيه كلمات مكتوبة على الجدران، وآثار لدماء بشر وحدهم يعرفون الحقيقة، إلى وكر الحرب هذا تعود مهاجرة لتروي حكايتها الفيلم اللبناني الفرنسي Go home 2016 للمخرجة اللبنانية الفرنسية جيهان شعيب وتمثيل الممثلة الإيرانية الفرنسية أيضًا غولشفتيه فرهاني.

فيحضر في البال موضوع الهجرة والحرب والعودة قبل البدء في مشاهدة الفيلم، الذي يمر من خبايا حكاية حربٍ أهلية ثقيلة الوطأة في الواقع وفي السينما، وما زال فيها الكثير من التفاصيل لتروى في الأفلام والروايات. ولكل اللبنانيين من روائيين وقاصي حكايا ومخرجي أفلام وجهة نظر وحكاية ما زالت باقية بين تيمات الحرب الكثيرة، فالحرب ما زالت موجودة بيننا طالما لم نمتلئ بالحب والنسيان الذي سيطمر الكراهية والعداء اللذين تفوح أجواء الفيلم بهما.

الحرب ما زالت موجودة في لبنان طالما لم نمتلئ بالحب والنسيان الذي سيطمر الكراهية والعداء اللذين تفوح أجواء فيلم "روّحي" بهما

العودة إلى البيت
تعود الشابة ندى اللبنانية الفرنسية إلى بيت جدها في إحدى قرى لبنان لإعادة إحياء الوقائع والأحداث التي تُركت للغبار والكراهية فأبقتها حاضرة بمأساتها وعلى علاتها إشارةً إلى العدوانية التي واجه الناس بعضهم بعضًا بها خلال الحرب والتي لم تنتهِ بعدها بل تُركت على هيئة بيت مهجور وصارت حديقته مكبًا للنفايات.

اقرأ/ي أيضًا: فيلم "Life".. هل يستحق المشاهدة؟

تيمة البيت تلك من شأنها تلخيص القصة كمكان دلالي تمر منه الأحداث، لتجد ندى العائدة أنها بمواجهة كل ما حمله البيت وماحمّله إليه الناس وأهل الضيعة خلال السنوات الماضية. ليصبح فعل ترتيب البيت وتنظيفه بحدّ ذاته مواجهة فعلية بين زمن الماضي والحاضر في تلك العودة الشغوفة.

تريد ندى البحث عن جثة جدها التي لم تعد تعرف عنه إلاّ أنه مات بطلًا في الحرب، فيحكي لها البيت قبل الناس والجيران حكاية جدها. "جدك ما كان شهيد" "جدك ما كان محترم" عبارات مثل هذه تحرض الحكاية وتدفع بالفيلم إلى الأمام في محاولة واضحة من المخرجة للاعتماد على التشكيك وتحريض البطلة للتفكير والسؤال حول الماضي الذي عادت لتحييه وتنبش فيه، كأن تتعثر خلال بحثك في حكاية البطل عن تفاصيل تشوهه وتجعل منه مشابهًا للجميع بل من أقلهم شأنًا، فالحرب لا تمنح صفات مجانية عابرة، كما أن للجميع حصة من القتل والفوضى.

ففي حربٍ أهلية كهذه لا مكان لطعم السكر، الذي اعتقدت ندى في تصور طفولي بريء أعادتها إليه ذاكرتها عن المكان وعن الجد، فتفكر بأن من كان يمنحها السكر لا يمكن أن يكون قاتلًا، ولكنها تنفرد مع نفسها بهذا التصور، بينما تجابه جميع الأقاويل والسير التي تخبرها العكس.

تصر ندى على معرفة الحقيقة، كما البيت الذي يصر معها على متابعة نبش الحكاية القديمة وتشكيل حكاية جديدة أكثر عقلانية وراهنية من الأقاويل ذاتها، ترتب البيت وتنظفه وتقيم فيه عزاء متأخرًا لا يحضر إليه أحد، تتابع إصرارها وتحديها للوقت ولسكان المكان العارفين أكثر منها، فتنقل همتها ونشاطها إلى الحديقة التي دفنت فيها صندوقًا من الحديد، ولكن لا يطفو على سطحها ولا يظهر منها إلا نفايات تلقى فيها على عجل، كمكان منخفض عن الطريق له دلالته بالعلاقة مع الضيعة والجيران والكل العارف.

اقرأ/ي أيضًا: أجمل 6 أفلام عن الشعر والشعراء

تخلق الحديقة بعدًا أكثر تشاؤمًا باقتراب ندى من الحكاية الحقيقة القديمة، تتذكر ومضات وذكريات غير مكتملة حين كانت شاهدة في صغرها على حادثة قتل كان جدها الآمر الناهي فيها، كما قد طلب منها مؤازرته بالمذبحة، لا يظهر من تلك الذكرى إلاّ أصوات الضجيج والصراخ، في دائرة صغيرة خلقها عدد من الرجال تدوس أقدامهم رجلًا آخر ربما أرادوا وقتها برهان وإثبات أن الكراهية تنفع. والتي ريثما طحنتهم وأودت بهم إلى نفس المكان. حيث لا رابح ولا خاسر من كل هذا الخبيط وكل أصوات الفوضى.

إلى وكر الحرب الأهلية اللبنانية تعود مهاجرة لتروي حكايتها بفيلم Go home 2016 للمخرجة اللبنانية الفرنسية جيهان شعيب

هذا المشهد ذاته يعطي بعدًا تشويقيًا وصادمًا للحدث الأكبر حيث يقنعك كمشاهد قبل أن يقنع ندى أن هذا التاريخ الذي تبحث فيه ملوثًا بشيء آخر ومختلف عن طعم السكر في بيت كان كبيرًا جدًا عليها وصار يخنقها شيئًا فشيئًا.

قبل منتصف الفيلم يعود الأخ المغترب أيضًا لأنه وعد أخته بالعودة معها، لا لتعلقه بالمكان أو بالذكرى، فيرسم لنفسه صورة مغايرة عن شبق أخته وولعها بالبحث تحت التراب وفوقه عن كل ما دفن وخُبئ، يتقن اللغة العربية أكثر منها، لذلك هو واجهة للحديث والتفاوض يعرف الحكاية ولا يريد إعادتها فلا براهين على الصدق والبراءة يريد أن يقدمها، هو صورة اللبناني المغترب الذي تربطه بالمكان النوستالجيا فقط، وربما تجعله يعود لذكرى متروكة هنا أو شوق لشيء ما هناك، في ذلك يختلف مع شقيقته التي عادت لتحفر تسأل وتتبين.

فوتوغرافيا الضوء
من أهم ما يثير العين في مشاهد الفيلم هي لقطات الظل والضوء العديدة والتي ترسم بعدًا رمزيًا للحكاية، فتضعك فوتوغرافيا الضوء في فرضية البيت المهجور الذي يتعرف عليه ضوء الشمعة ويرسم تفاصيل زوايا صغيرة فيه، ليبقى هكذا بلا ضوء مشع يملأه، فتأخذ اللقطات الليلية على ضوء ضعيف ينير الوجوه فقط، حيث لا حاجة في هذا المكان إلى الضوء القوي لكشف ملامحه يكفيه ضوء النهار الذي يملؤه ويشع فيه، ويؤكد على ضرورة تركه مهجورًا وعدم الإفصاح عن كل أسراره.

 

اقرأ/ي أيضًا:

فيلم Justice League: هل يكون طوق النجاة لعالم DC؟

فيلم "أغنية على الممر".. لحن التشظي والهزيمة