04-سبتمبر-2016

من الفيلم

14 دقيقة هي جل ما ملكه المخرج الشاب محمد كامل ليتحدث مع مشاهده باللغة التي يتقنها، لغة الصورة السينمائية، وذلك من خلال فيلم قصير يحمل عنوان "ربيع شتوي". ربيع شتوي هو فيلم من إنتاج عام 2015 ورغم قصر مدته إلا أن تأثيره وصل إلى حد مشاركته فيما يجاوز الـ80 مهرجانًا دوليًا، من أبرزها مهرجان كلاريمون فيران الفرنسي الذي يُعد أكبر مهرجانات سينما الفيلم القصير، وحصوله على عشر جوائز متنوعة ما بين إخراج وتمثيل، فضلًا عن الترشيحات العديدة.

منذ اللحظة الأولى التي يستقبل بها المشاهد هذا الفيلم القصير يجد نفسه أمام تساؤل: ما هو الربيع الشتوي، وهل هناك ما يحمل هذا الاسم؟ وبعد مرور 14 دقيقة يكون المشاهد قد خاض مع الفيلم متعة بصرية سينمائية كبيرة ليدرك ما هو الربيع الشتوي وماذا يعني الاسم.

صراع صامت
أب ومراهقة هو جل ما يراه المشاهد خلال الدقائق القليلة، فالحكاية بسيطة تعتمد على الشعور والإحساس أكثر من الحدث القائم، فالمراهقة تمر بمرحلة البلوغ دون أم، وبصحبة أب يحاول أن يتقرب منها دون استجابة من الفتاة التي تشعر بالغربة في إخبار والدها بالعادات الجديدة التي تطرأ عليها بتلك المرحلة العمرية التي تزدهر بها وتتحول من فتاة صغيرة إلى مراهقة تطرق أبواب الأنوثة.

في أولى تجاربه السينمائية يقدم المخرج محمد كامل علاقة الأب والابنة المراهقة بشاعرية بالغة، مسخرًا ما يملكه من حس شعوري نتيجة دراسته للفنون الجميلة وإجادة تشكيل الصورة وصياغة المعاني من خلال الصورة السينمائية أكثر من الكلمات.

سيناريو الفيلم وحبكته التي صاغها كل من المخرج محمد كامل والكاتب والشاعر تامر عبد الحميد يعتمد على حكاية بسيطة تتوغل في أعماق النفس الإنسانية وتكشف عن بواطن صراع نفسي داخلي يجمع بين الفتاة والأب، فالفتاة تجد صعوبة في التواصل مع والدها وتستشعر به الغربة، والأب يحاول التقرب من ابنته ولكن دون جدوى ملحوظة، حتى يكتشف الأمر بالنهاية ويتواصلا معًا دون حديث.

من الوهلة الأولى نجد العمل يحمل بعدًا حداثيًا متأثرًا بملامح السينما الأوروبية التي تعنى بقضايا الإنسان والأزمات الصغيرة التي يمر بها بحياته

اقرأ/ أيضًا: المصارع.. فيلم عن المَجد الزائل

ملمح أوروبي

من الوهلة الأولى نجد العمل يحمل بعدًا حداثيًا متأثرًا بملامح السينما الأوروبية التي تعنى بقضايا الإنسان والأزمات الصغيرة التي يمر بها بحياته، لاسيما السينما الفرنسية التي تولي اهتمامًا كبيرًا بقضايا المراهقين وما تشهده حياتهم من تغيرات بالغة يمكن أن تؤثر عليهم فيما بعد.

"نور" هو الاسم الذي اختاره الكاتبان لتحمله شخصية الفتاة المراهقة، نور اسم يكشف ملامح الربيع الشتوي، كنور الصباح الذي يحول الليل إلى نهار واضح المعالم. نور فتاة محافظة منطوية حساسية تأثرت بوفاة والدتها وشعرت بالاغتراب في البيت والمدرسة وكل ما يحيطها، تستشعر نور الغرابة من التغيرات التي تطرأ عليها، وبرمزية بالغة يقدم كلا من الكاتبين هذا التغيير على نور من خلال "دودة"، حيث تكلف نور من المدسة بمراقبة تلك الدودة التي ستتحول إلى فراشة مع الأيام.

ينتهج الفيلم سبيل اللاحدث لتوضيح ملامح حياة بسيطة تجمع شخصان في مدينة الإسكندرية خلال فصل الشتاء الهادئ، كما هو حال العلاقة بين الأب والفتاة من الناحية الظاهرية، حيث يحتوي الشتاء على ملامح التوتر بما يقدمه من متغيرات في المناخ وهو ما يظهر من توتر في علاقة الأب والابنة واضطراب التواصل فيما بينهما.

دلالة الاسم

ربيع شتوي. اسم وصفي بالدرجة الأولى يصف حال كل منهما، فالربيع الذي يحمل معه تفتح الأزهار وحالة الانتعاش التي يصبو لها الجميع يحمل ملامح شتوية داكنة وملبدة بالغيوم، فالربيع الشتوي هو تلك المرحلة المشوشة التي تمر بها الفتاة وتتعثر في التكيف مع والدها الذي يحاول جاهدًا التواصل معها.

اقرأ/ أيضًا: فيلم "حب وصداقة".. حين تلعب جين أوستن بذيلها

جماليات
من خلال لقطات طويلة ثابتة تهدف للتأمل في ملامح الصورة وتفاصيلها قدمت عدسات رؤوف عبد العزيز صورة غنية تستحق التأمل تتعامل مع شاعرية الحبكة بصورة بالغة الحساسية وتدفع المشاهد للتأثر باللحظات التي تمر على حياة كل من نور ووالدها.

تعامل العمل مع مفهوم السينما قليلة الكلمات وهو ما منح العمل سمة عالمية تتلاءم مع كافة الدول والجنسيات، واستخدم المعادل البصري ليكون هو معبره للمشاهد بعيدًا عن زحام الكلمات. كما تلاءم هذا الأمر مع حالة الصمت التي اختارتها الفتاة وتحاول نهجها.

يستهل المخرج مشاهد فيلمه بلقطة لطبق من الجوافة الناضجة وفي الخلفية نور النهار، تلك اللقطة التي تكشف عن ملمح من مكنون العمل، كما يقدم العمل من خلال المعادل البصري الشعور بالروائح وهو ما يصعب على الفن السابع التعامل معه، حيث يحفز المخرج الذاكرة الحسية الخاصة بالشم والتذوق لدى الجمهور من خلال استعراض شم الفتاة لحبة جوافة ناضجة، في إشارة إلى نضوجها، كما يحفز ذاكرة شخصية نور بوالدتها التي كانت تنتقى لها حبات الجوافة النضرة لتأكلها.

من خلال أغاني مرحة ومبهجة تأتي الخلفية السمعية، حيث أغنية "ياما سليمان" لفيروز وأغاني منير مراد المرحة التي تبهج الروح رغم غياهب الشتاء الغامضة، فيكاد يخلو الفيلم من الموسيقى التصويرية ليكتفي المخرج بالمؤثرات التي يخلق من خلالها عالم المنزل الصغير.

شاعرية
انتقى المونتير وسام وجيه الليثي سبيل المونتاج الناعم حتى يتلاءم مع شاعرية مشاهد العمل، فتواءمت قطعاته ونقلاته مع متغيرات وتيرة حياة نور وأبيها، فجاءت نقلاته ناعمة وحساسة تجاه العمل وكانت ضلعًا هامًا لوصول التأثير المطلوب للمشاهد.

يعد التمثيل أحد أهم العناصر التي يقوم عليها فيلم "ربيع شتوي"، فيلعب دور الأب الممثل أحمد كمال، هذا الرجل المخضرم في الانتقال بين الشخوص والأدوار بسلاسة، وقد قدم دور الأب بحرفية عالية حققت مقولة "السهل الممتنع" فقدم مشاعر الأب المتداخلة ما بين خوفه على ابنته وقلقه وحبه لها، كما لعبت الممثلة الشابة التي تظهر لأول مرة إيمان مصطفى دور نور بسلاسة خاصة، ومنحت الشخصية ملمحًا إنسانيًا راقيًا بعيدًا عن التكلف، فظهرت شخصية نور تلقائية وطبيعية لفتاة تحمل بداخلها الكثير لكنها لا تنطق إلا بالقليل، وتترك عينيها التي تقول كل شيء، ليستحق كل منهما جوائز عالمية لأدائهما في عدد من المهرجانات الدولية.

فيلم ربيع شتوي من الأفلام ذات الخيط الرفيع التي تحتاج لاحتراف التعامل معها حتى لا ينفرط عقدها وتتناثر حبات العقد ليفسد جماله، وقد برع المخرج محمد كامل في غزل خيوط هذا العمل بصورة احترافية عالية، رغم أنه العمل الأول له، ليبشر بنظرة سينمائية مصرية الجنسية، عالمية الهوية، تحاكي الإنسان في كل مكان، كما يبشر بمستقبل خاصة للسينما القصيرة التي تتغافل عنها الأنظار.

اقرأ/ أيضًا:

"كابتن فانتاستيك".. يوتوبيا خطرة

أليخاندرو إيناريتو: عليك أن تنهي هذا السباق