31-مارس-2021

من الفيلم (IMDB)

لطالما ارتبط وجود الكائن البشري بالانفصال، فبدون انفصاله كجنين عن رحم أمه لا وجود عياني أو حقيقي له في العالم، وبدون رعاية أمه له خلال جميع مراحل طفولته لا وجود له كذات حرة وفاعلة في عالم الراشدين. فعلى عكس الشائع والمتداول عن الطابع التملكي لعاطفة الأمومة، في تجليها كعلاقة تبعية بين الأم وأطفالها، فإنها في الحقيقة تنهض على كونها علاقة حب غير معلقة على شرط من جهة، وعلاقة حرية تسعى لتشكيل وجودنا الحر بمعزل عن وجودها من جهة أخرى.

من بدون انفصال الكائن الإنساني كجنين عن رحم أمه لن يكون له وجود عياني أو حقيقي في هذا العالم

دون أم تعمل على فصلنا عنها على نحو مستمر لا نتحول إلى شيء، اللهم سوى بقائنا كأطفال قاصرين أبد الدهر.

اقرأ/ي أيضًا: فيلم موستانغ.. رصد أنوثة تركيا وترجمتها

في فيلم "حياة من ورق" يقدم لنا المخرج التركي جان أولكاي دراما فنية عالية المستوى للتعرف على وضعية وجودنا دون أم أو راعٍ كبير، يقوم على الأخذ بيدنا إلى وضعية الرشد وفق منطق الحرية والاستقلال الذاتي. كل ذلك عبر إلقائه الضوء على السيرة الذاتية لأحد مشردي مدينة اسطنبول التركية محمد علي (شاجتاي أولوسوي)، التي شاءت الأقدار أن تنقلب حياته وهو في عمر الست سنوات رأسًا على عقب، أثر قيام أمه المرعوبة في انتزاعه من يدي زوجها المتوحش إلى جوف كيس قمامة لجمع الورق التالف، ليستقر به المطاف في إحدى مكبات فرز النفايات، في أحد أزقة اسطنبول التي تطفو على الضوء والماء.

على عكس من جميع الأطفال المشردين، الذين سيجمعه بهم قدر جمع الورق والزجاجات الفارغة في "زقاق الكفاح"، فإن محمد الشاب الوسيم القوي لن ينضج أبدًا، حيث سيظل أسير طفولته المعذبة التي ستودي به إلى فصام أبدي لا نهايه له سوى بالموت، هذا ناهيك عن الخطر الوجودي الذي يتهدد حياته والمتمثل بتعطل كلتا كليتيه عن العمل.

تنوس حياة محمد علي كطفل شوارع، كما تصورها السينارست أرجان أردام، بين حدين، حد الطفل الذي وجد نفسه وحيدًا في مواجهة شرور العالم، حيث الشارع منطقة متميزة بقواعدها اللأخلاقية التي تقوم على علاقات القوة والهيمنة واستغلال حاجة الضعيف والتنكيل به، وحد الطفل الذي وجد نفسه خارج الرحم الأمومي، الأمر الذي سيدفع بها إلى فصام لا يمكن لنا فهمه دون فهم الآليات التي أدت إليه، والمتمثلة بنقص الإشباع المتمثل بالحب والرعاية الأسرية. فما كان لمحمد أن ينفصم أي أن يظل جزءًا حميميًا من ذاته الحالية عالقًا في الطفولة، لولا انتازعه من هذه الطفولة على شكل نفي قسري سببه قسوة زوج الأم. فما الفصام في حالته تلك سوى محاولة متوهمة للعودة إلى ذلك الحضن الدافئ عبر الخيال.

مع أن فيلم "حياة من ورق" مؤلم على نحو قاس، سواء في النهاية التي سيساق إليها البطل، أو في مشهد أحد الأطفال المشردين وهو يتمنى الموت في عمره الصغيرة هذه، كي لا تعجز أمه عن التعرف عليه يوم القيامة وقد تبدلت ملامح وجهه على نحو كبير. فإنه لم يخلُ من بعض مشاهد الكوميديا السوداء، كما في مشهد تعنيف محمد لصديقه الحميم غونزي (أمير دغرول)، نتيجة تسببه في ضياع الطفل غير الموجود إلا في خياله المريض، وكما في حالة إصراره على إقامة حفل عيد ميلاد لنفس الزميل الذي قام تعنيفه قبل قليل، المفتقد لأدنى معرفة عن تاريخ قدومه إلى هذه الدنيا القاسية.

فيلم "حياة من ورق" مؤلم على نحو قاس، سواء في النهاية التي يساق إليها البطل، أو في مشهد الأطفال المشردين الذين يرصدهم

في الظاهر يبدو أن اسم الفيلم مستمد من مهنة جمع الورق التي وجد الأطفال المشردين أنفسهم منخرطين في جمعها بغية حصولهم على مصدر رزق شريف، على النحو الذي ذهب إليه غونزي في حديثه إلى محمد علي "إننا لا نفعل شيئًا سوى العيش على مخلفات الآخرين". إلا أنه في العمق يحيل إلى شيء آخر تمامًا، إلى حياة محمد علي نفسه وأقرانه التي لا تشبه حياتهم في طبيعتها سوى الورق الذي يقومون بجمعه، والذي من صفاته الذوبان والتلاشي عند أول وابل مطر يتعرض له وكأنه لم يكن.

اقرأ/ي أيضًا: فيلم "Kedi".. لقاء ممتع في عشق القطط وإسطنبول

لا تكمن القيمة الفنية فيلم "حياة من ورق" في تسليطه الضوء على قضية هامة مثل قضية أطفال الشوارع أو المشردين في مدينة كبيرة مثل اسطنبول، ولكن في طريقة تناولها فنيًا، حيث نجد أنفسنا أمام فيلم مركب يجمع بين ظهرانيه الحوار كما الصورة المكثفة والعميقة. هذا ناهيك عن توظيفه لعامل الإرجاء أو التأخير على أحسن وجه، حيث لا يمكن التعرف على فحوى الحكاية دون المضي مع الفيلم إلى مشاهده الأخيرة. إذا كان من توجه كلمة إشادة فهي لبطلي الفيلم أولوسوي ودغرول اللذين أديا دورها على نحو مبهر وجميل.

اقرأ/ي أيضًا:

فيلم No Escape.. العالم الرابع يرحب بكم

10 أفلام مستوحاة من أعمال شكسبير