30-سبتمبر-2021

من الفيلم

يبدو فيلم "تحت فراء الذئب" (نتفلكس، 2017)، للوهلة اﻷولى، عملًا رتيبًا مملًا وربما تافهًا مقارنةً بغيره من اﻷفلام التي تناولت موضوع "الوحدة" بشكلٍ أكثر وضوحًا وارتباطًا بالحياة الراهنة، وأحوال الفرد في ظلها. هذا هو بالضبط الانطباع الذي سيخلُص إليه المشاهد عند انتهائه من المشاهدة. وهو الانطباع الذي تلاقت على تشكيله عوامل عديدة، هي: قلة اﻷحداث وإعادة تكرار ما قد يبدو أنه المشهد نفسه. ندرة الحوارات بين شخصيات الفيلم القليلة بدورها، والتي لا تظهر إلا في جزءٍ بسيطٍ منه. باﻹضافة إلى الفظاظة أو الخشونة التي يتسم بها سلوك بطله، وهي العامل اﻷهم في هذا السياق، وأكثرها إثارةً لنفور المشاهد. 

الفظاظة أو الخشونة هي محور الفيلم وأساسه، ذلك أنها ما تمخض عن الوحدة وما كرّسها في حياة بطله

مع ذلك، هناك ما يميّز الفيلم  ويجعله مختلفًا عن غيره، وهو نوع "الوحدة" التي يتناولها ويلقي الضوء عليها، بوصفها "وحدة" تُعيد الفرد كائنًا بدائيًا في معيشته وسلوكه وعلاقته بذاته وباﻵخرين من حوله، بل بجميع ما يحيط به. مما يعني أن هذه الوحدة، في النهاية، هي مصدر فظاظة بطل الفيلم وخشونته. وهذه الفظاظة، بغض النظر عما تثيره من مشاعر عند المشاهد، هي محور الفيلم وأساسه، ذلك أنها ما تمخض عن الوحدة وما كرّسها في حياته أيضًا. والسبب، ببساطة، أنها تثير نفور اﻵخرين منه بما يكفي ليبتعدوا عنه. وهذا ما تجلى، على الأقل، في زواجه الثاني الذي انتهى بطريقةٍ صادمة. 

اقرأ/ي أيضًا: أربع من كبرى ملاحم السينما

تظهر في المشاهد الافتتاحية من الفيلم جبال ووديان ومساحات بيضاء تتنقل بينها كاميرا المخرج اﻹسباني سامو فوينتس التي ستضعنا، بعد ذلك مباشرةً، في مواجهة مارتينيون (Mario Casas)، بطل الفيلم، الذي يستعد للضغط على زناد بندقيته الموجهة نحو "أيل" سيجرُّه، بعد اصطياده، إلى منزله الذي يتوسط منازل أخرى هجرها سكانها منذ زمنٍ بعيد. 

يعيش مارتينيون في هذا المكان، الذي تشكّل فيه سلوكه الفظ ونمط حياته التي أمضى ما فات منها في صيد الحيوانات، المهنة الوحيدة التي يستطيع الفرد ممارستها في قرية جبلية تغطيها الثلوج على مدار العام، وتحمل من القسوة ما يكفي لجعله فظًا في سلوكه ومعاملته وحتى في طريقة تناوله للطعام، التي كانت من بين أكثر التفاصيل التي ركزت عليها الكاميرا.

وعلى العكس مما قد يتخيله البعض، لا تبدو طريقة مارتينيون في تناول الطعام مقرفة بقدر ما هي بدائية. واﻷخيرة هنا نمط حياة أكثر من كونها صفة. وهذا بالضبط ما يفسِّر طريقته "الهجمية" في ممارسة الجنس مع زوجته اﻷولى، التي لم تُحدث التغيير المطلوب في حياته، بل إن ما أضافته إليه، إلى جانب الجنس، لا يتعدى مشاركته الطعام، ومساعدته في دبغ جلود الحيوانات، وتسيير شؤون المنزل حتى وفاتها بشكلٍ مفاجئ. 

يكتشف مارتينيون أن سبب وفاة زوجته، هو مرضها الذي أخفاه والدها عنه، فيقرر حينها استعادة اﻷموال التي دفعها له مقابل زواجه منها. غير أنا اﻷب، وبسبب عجزه عن سداد المبلغ الذي حصل عليها، يقترح على مارتينيون أن يزوِّجه من ابنته الصغيرة التي أوصاها بقتله، عبر دسّ السم له في طعامه، إن لم تتحمل العيش معه. وهذا بالضبط ما فعلته بعد فشلها في التأقلم مع سلوكه الخشن وطباعه الفظة. 

ما يميّز الفيلم هو نوع "الوحدة" التي تناولها وألقى الضوء عليها بوصفها "وحدة" تُعيد الفرد كائنًا بدائيًا في معيشته وسلوكه

رغم ذلك، لا يبدو أن السبب الذي دفع زوجة مارتينيون إلى قتله، هو فشلها في تحمّل العيش معه فقط، وإنما عجزها، بالدرجة الأولى، عن التعامل مع الوحدة التي عنونت حياتهما في ظل انصرافهما عن تبادل الكلام، واقتصار علاقتهما على تناول الطعام وممارسة الجنس فحسب. اﻷمر الذي جعلها، في نظرها على الأقل، كائنًا غير مرئيٍ في غياب من يراها غير زوجها الذي كان له عالمه الخاص، الذي يدور مدار الصيد ودبغ الجلود وممارسة الجنس. 

اقرأ/ي أيضًا: فيلم "كوبا.. رحلة أفريقية".. على طريق الحرية

لا يعني ما سبق أن مارتينيون كان عديم المشاعر بالضرورة، على العكس تمامًا. ولكنه، وبسبب نمط حياته البدائي، لم يكن يعرف كيف يعبِّر عما في داخله. لذا، سنراه في نهاية الفيلم، قبل موته بوقتٍ قصير متأثرًا بالسّم، يطلق سراح حيواناته لكي لا تموت من الجوع بعد موته. بينما نراه في مشهدٍ آخر يجلس أمام قبر زوجته الأولى وهو يضم إلى صدره سرير الطفل الذي كان ينتظر قدومه. إلا أن المشهد الأكثر تعبيرًا عما كان يشعر به قبل وفاته، هو مشهد بكائه على الحياة التي عاشها في ظل الوحدة التي انفردت بتشكيل طباعه وسلوكه، بل وحتى رسم مصيره أيضًا.

 

اقرأ/ي أيضًا:

4 أفلام أُخذت من روايات رولد دال

الفيلم الصامت "Zare".. أول حضور كردي على الشاشة الكبيرة