15-مايو-2021

73 عامًا: فلسطين ثورة.. فلسطين ربيع

اختارت المخرجة الفلسطينية فرح النابلسي (1978)، أقل ما يمكن من التفاصيل، وأكثرها كثافةً، لبناء فيلمها "الهدية" (نتفلكس، 2021)، الذي يصور طبيعة حياة الفلسطينيين، أو النُتف القليلة المتبقية لهم منها، في ظل الاحتلال. وهي نُتفٌ يريد منها المحتل، لفت انتباه الفلسطيني إلى عجزه وقلة حيلته أمام ممارساته التي تُعرقِل سَيرَ حياته اليومية.

ورغم وفرة أشكال هذه الممارسات وتعددها، إلا أن النابلسي اختارت "الحاجز"، تحديدًا، ليكون محور فيلمها الجديد، وذلك لكونه المسرح الذي تمارِس فيه قوات الاحتلال إهانتها للفلسطينيين وهدرها لكرامتهم بصورةٍ يومية، في الوقت الذي تجعل فيه أبسط أمور الحياة اليومية المعاشة وتفاصيلها، في حال تطلَّب قضاؤها المرور عبر حاجزٍ إسرائيلي، معقدة بما يكفي لجعل عملية شراء ثلاجة بحاجةٍ إلى تخطيطٍ مسبق، ويومٍ كاملٍ من التوتر والقلق ومحاولات ضبط الأعصاب. 

بين ذهاب يوسف لشراء الهدية، وعودته بها نهاية الفيلم، تحاول المخرجة أن تنقل للمشاهد مشاعره وعواطفه وانفعالاته خلال رحلته هذه

شراء الثلاجة إذًا، هو الأمر البسيط، والبسيط جدًا، الذي يدور حوله فيلم "الهدية". والحاجز الإسرائيلي الذي يفصل بين مكان إقامة يوسف، بطله، والمكان الذي تُباع فيه الثلاجة، هو العامل الحاسم في جعل هذه العملية البسيطة معقدة للغاية، عدا عن أنه محور الحكاية التي تروي قصة رجلٍ يريد شراء ثلاجة لزوجته بمناسبة عيد زواجهما، دون أن يخطر في باله أن الأمر سيتحول إلى مغامرةٍ تبدأ لحظة الوقوف أمام الحاجز، وتنتهي بعد تجاوزه. 

وبينما يبدو الوقوف أمام الحاجز أمرًا بديهيًا لا بد منه، لا يضمن يوسف مسألة في المقابل مسألة تجاوزه، ذلك أنها مرتبطة بمزاج الجنود الذين يعمدون إلى استعراض قوتهم أمام الفلسطينيين، من خلال إجبارهم على الانتظار، ولوقتٍ طويل، قبل السماح لهم بالعبور، وذلك بعد إجراءاتٍ تعسفية يُراد منها إذلالهم والانتقاص من شأنهم.

هكذا، تستغرق علمية شراء الثلاجة التي يُفترض ألا تتجاوز بضعة ساعات، نهارًا كاملًا قضى يوسف وابنته الجزء الأكبر منه عند الحواجز ذهابًا، حيث تعرض للتفتيش لوقتٍ طويل ودون داعٍ، وإيابًا حينما منع الجنود دخول السيارة التي كانت تحمل الثلاجة، ليضطر حينها لنقلها على عربةٍ يدوية، قبل أن يصطدم بضيق مساحة الباب المخصص لدخول الفلسطينيين، وعدم موافقة الجنود على السماح له بالعبور من المدخل المخصص للمستوطنين، والذي، على عكس مدخل الفلسطينيين، يخلو تمامًا من الأسلاك والبوابات والحواجز الحديدية. 

وبين ذهابه لشراء الهدية وعودته بها نهاية الفيلم، تحاول فرح النابلسي أن تنقل للمشاهد مشاعر وعواطف وانفعالات يوسف العاجز، تمامًا، عن مقاومة ممارسات الجنود، بشكلٍ لا تفقد عنده خصوصيتها، أو تدخل في فخ الابتذال والتكرار، لا سيما وأن الموضوع سبق وأن عالجته أفلام كثيرة. لذا، تحاول المخرجة الفلسطينية وضع المشاهد في مواجهة محاولات يوسف المستمرة للسيطرة على أعصابه وانفعالاته في الوقت الذي يتعرض فيه، وأمام ابنته، لإذلالٍ متواصل كانت شاهدةً عليه طوال رحلتهما. 

ولكن هذه المحاولات لضبط النفس، تنتهي لحظة منعه من إدخال الثلاجة/ الهدية التي أمضى يومًا كاملًا يحاول إيصالها إلى زوجته، الأمر الذي دفعه إلى الدخول في نوبة هستيرية صوَّب جنود الاحتلال بفعلها أسلحتهم تجاهه، في الوقت الذي دفعت فيها ابنته العربة باتجاه المدخل المخصص للمستوطنين، مما دفعه إلى اللحاق بها، دون الاكتراث بما يقوله الجنود الذين انشغلوا عنه بمشادات كلامية حول الطريقة المناسبة للتعامل معه. 

الملفت للانتباه في فيلم "الهدية"، ليس تأخير الفلسطينيين على الحواجز لأسبابٍ وحججٍ سخيفة وواهية، ولا تفتيشهم بطرُقٍ تتعمد إذلالهم، وإنما حِرص الجنود على لفت انتباه الفلسطينيين إلى مستوطنٍ سُمح له بالعبور دون تفتيش أو انتظار، وبشكلٍ أراد منه الجنود تقديم الفلسطيني الذي ينتظر دوره في العبور، بوصفه دخيلًا يجب معاملته بهذه الطريقة، على العكس تمامًا من المستوطن الذي يحاول الجنود تقديمه، زورًا، بوصفه من أصحاب الأرض التي يقف عليها. 

اختارت النابلسي من "الحاجز" محورًا لفيلمها، وذلك لكونه المسرح الذي تمارِس فيه قوات الاحتلال إهانتها للفلسطينيين وهدرها لكرامتهم بصورةٍ يومية

ويمكن للمشاهد أيضًا أن يلاحظ، في جميع المرات التي وقف فيها يوسف عند الحاجز، الطريقة التي ينظر بها جنود الاحتلال إليه، وكأنها طريقة تطرح عليه السؤال التالي: من تكون؟ وهو سؤالٌ مفتعلٌ ومصطنع، وجزء من المساعي الصهيونية لتكريس النسيان، أو بجملةٍ أدق، التظاهر به بهدف خلق واقعٍ جديد لا مكان فيه للماضي، وبالتالي لا مكان للفلسطيني إلا بصفته دخيلًا أو مقيمًا. وهذه النظرات، أو التظاهر بها، وطرُق التعامل وأساليب التفتيش، ليس إلا محاولات إضافية لتكريس نسيان ماضيهم الحافل بالعنف الذي قامت عليه، ونتيجةً له، دولة الاحتلال. 

ولكن الحاجز ذاته هنا، وممارسات الجنود فيه، دلالة على ما يُراد له أن يُنسى وتذكيرٌ به أيضًا. إنه تكريسٌ لوجود الإنسان الفلسطيني، وإشارة إلى ضبابية وجود الصهاينة، ذلك أن الحاجز هنا ليس إلا تعبيرًا عن خوفهم من أصحاب الأرض، وردة فعلهم تجاههم. وبالتالي، وكما تبيّن لنا فرح النابلسي في نهاية فيلمها، لحظة عبور يوسف وابنته الحاجز برفقة الثلاجة، يصير الأخير إشارةً، بل وتكريسًا لقوة الفلسطيني الذي يملك، دائمًا، طريقًا للعودة.. للوصول.