12-مارس-2019

من الفيلم (IMDB)

ينطلق فيلم "الفرح" من مسلمات وجودية تقوم على فلسفة التسيير والتخيير في المناطق العشوائية، لا المصرية فقط، بل تشمل كافة المناطق العشوائية على الخارطة العربية. هذه الفلسفة التي تعمل على مبدأ التسيير أكثر من التخيير في هذه المناطق على أمل مجيء حدث ما ورائي يغيّر من ظروف العيش الصعبة، في بيئة تتقاسم تفاصيل يومياتها فيما بينها.

النهايات المأساوية في فيلم "الفرح" جاءت تباعًا كانت ردًّا طبعيًا على فكرة القضاء والقدر

بالتأكيد لن نعيد سرد قصة الفيلم بشكل مطول، وسنكتفي بسرد سريع لعرضها؛ يتحدث الشريط عن عدة شخصيات تتلاقى مصالحها في حفل الزفاف الذي ينظمه خالد الصاوي (زينهم) باستئجار عروسين وهميين لشراء حافلة صغيرة، أما العروسان فهما بحاجة للزفاف، فبعد سبعة أعوام من الخطوبة فقدت فيها الفتاة عذريتها من خطيبها ما جعل ألسنة النساء تتحدث عنها بشكل سيئ، مع تداخل لمصالح شخصيات ثانية، لكن كل شيء يتبدل عندما تتوفى والدة زينهم خلال الحفل.

اقرأ/ي أيضًا: رضوان الكاشف.. قصة "فيلسوف" السينما المصرية

بهذا التداخل الذي تسعى كل شخصية للاستفادة من الحفل حسب مصالحها، يضع مخرج العمل سامح عبد العزيز مع مؤلفه أحمد عبد الله نهايتين للشريط، الأولى يتخذ فيها زينهم قرار إخفاء خبر والدته، والاستمرار بتنظيم الحفل متحديًا القضاء والقدر الذي يعاقب الجميع في نهاية الحفل، ونهاية سريعة تقتصر على إنهاء الحفل، وتأجيله بسبب حادثة الوفاة.

تقودنا فكرة الفيلم بشكل عام إلى فلسفة التسيير أكثر من التخييّر المتأصلة في المناطق العشوائية، فالنهاية السوداوية التي رافقت الشخصيات بعد مضيهم باستكمال الحفل، اعتبرت عقابًا إلهيًا على عدم التسليم بالقضاء والقدر، على اعتبار أن الوفاة إشارة إلهية لإيقاف الحفل لأنه يحوي على الممنوع/المرغوب في المناطق العشوائية، الحشيش والكحول والأغاني والرقص، فزينهم عندما قرّر استكمال الحفل قام على فكرة أن الإنسان مخيّر، وليس مسيرًا.

النهايات المأساوية التي جاءت تباعًا على الحاضرين في الحفل كانت ردًا طبعيًا على فكرة القضاء والقدر، ومن ناحية ثانية تشير إلى أنه رغم محاولات سكنى العشوائيات من تحسين وضعهم الاقتصادي بأي ثمن فهم يصدمون بمعاكسة القدر لهم، في بداية الشريط يقول زينهم "الغلا علّم الناس البخل"، تختصر هذه الجملة طبيعة الحياة البسيطة التي يعيشها سكنى العشوائيات بإلقائهم جملًا تظهر كأنها حكمة يومية.

فإذا أخذنا مراجعة سريعة لطبيعة الحياة في العشوائيات، نرى أنها تقوم على فكرة التدين الشعبي، وفكرة التدين هنا تنشأ على الالتزام بالمواريث الدينية الشعبية التي تُرجع في النهاية الخيرَ والشرَّ إلى مسلمات القضاء والقدر، النموذج الذي يقدمه الشريط هنا، واحد من بين عدة نماذج تمارس تدخين الحشيش، وشرب الكحول، وحضور الحفلات الصاخبة، لكنها لا تخرج عن الأعراف والتقاليد الاجتماعية، ودائمًا ما تترك خيطًا لو بسيطًا بين إيمانها، وأفعالها التي تقوم بها، وتعترف ضمنيًا بأنها أفعال خاطئة، لكنها في النهاية تمارسها تاركة المحاسبة للقضاء والقدر.

وهنا التدين الشعبي ليس تدينًا حقيقيًا بقدر ما هو ثقافة شعبية، والثقافة الشعبية بحسب زهية جويرو في كتابها "الإسلام الشعبي" يجري نقلها بوسيط "هو المشافهة وعبر التجربة والمعايشة، لذلك فمجالها هو اليومي والمعيش وهي إلى ذلك مجال سيادة للتقاليد"، في واحدة من المصارحات بين العريسين اللذين يحاولان إجراء عملية لإعادة غشاء البكارة من أجل ألسنة السكان، يقول العريس: "لا صلاة ولا صوم ولا صبر نافع يمنعنا من الغلط"، هذه الجملة هي واحدة من عديد الجمل التي تدّل على ثقافة الموروث الشعبي الذي يخيم على المناطق العشوائية، ونجدها حاضرة بقوة في الشريط.

وهذا الحديث لا ينقص من قيمة المناطق العشوائية التي ينتمي إليها معظمنا، بقدر ما يسلط الضوء على أماكن يجري التعامل معها بأنها منفصلة عن باقي البيئات، ويتم التعاطي معها من قبل طبقات أخرى بنوع من التعالي، والتدليل دائمًا على أن معظم سكانها هم مجرمون أو لصوص أو أي وصف يصب في إطار البلطجة أو الزعرنة، وهي بالوقت نفسه تتشابه مع باقي الطبقات في السيادة للأقوى على الأضعف.

شيء آخر ميز الشريط، وهو الأغنية التي أداها عبد الباسط حمودة "أنا مش عرفني". يمكن القول إن كلمات الأغنية تختصر سريعًا قصة الفيلم، فيها شرح مبسط لما يعانيه سكنى العشوائيات، في مصر تحديدًا، من الغوص في الحياة الفقيرة، وفيها جبروت زينهم الذي أدى رقصته بالسيف أمام الحضور رغم وفاة والدته، لكن القضاء والقدر عاقبه في النهاية الأولى بسرقة الحقيبة التي تحوي على النقود، فالعرس أقيم بالأساس من اجل استرداد زينهم للنقود التي دفعها كنقوط للعرسان في حفلات الزفاف الأخرى ليتمكن من شراء حافلة صغيرة للعمل عليها.

يجري تناقل الثقافة الشعبية بوسيط هو المشافهة وعبر التجربة والمعايشة، لذلك فمجالها هو اليومي والمعيش وهي إلى ذلك مجال سيادة للتقاليد

اقرأ/ي أيضًا: أهم 100 فيلم في السينما المصرية.. كيف جمعها سامح فتحي؟

في كلمات الأغنية تواصيف فاضحة، يفهمها جيدًا أولئك الذي ينتمون بالفعل للمناطق العشوائية التي يحاول سكناها تحسين وضعهم الاجتماعي، وبالوقت نفسه لديهم معاناتهم الخاصة مع معاكسة القدر لحظهم "قوليلي أيه يا مرايتي.. قوليلي أيه حكايتي.. تكونشي دي نهايتي.. وآخر قصتي"، أو عندما يصرخ حمودة "والعمر راح هدر"، فالأغنية بحد ذاتها رغم أن كثيرين ينظرون إليها على أنها سوداوية، لكنها تشير بشكل مباشر إلى نمط حياة صعبة في "بلد بقيت كلها حرامية"، كما يقول زينهم لنفسه بصوت منخفض.

 

ومن هذا المنطلق فإن فكرة فيلم "الفرح" أساسًا لا يمكن اختزالها بمقال واحد، لأننا أمام شخصيات تملك مصائر معقّدة، ولا تملك حلًّا لها بسبب معاكسة القدر، حيثُ تحتاج كل شخصية قراءة خاصة، لكن الفكرة الأساسية تبقى مرتبطة بسكنى العشوائيات أنفسهم الذي رغم محاولاتهم لتحسين وضعهم الاجتماعي يصطدمون بالمصائب التي تتوالى عليهم، ويعودون بتسليمها للماورائيات المرتبطة بالقضاء والقدر، وهذه المادة ليست إلا محاولة بسيطة للتذكير بالفيلم بعد عشرة أعوام من عرضه لأول مرة على شاشات السينما.

 

اقرأ/ي أيضًا:

فيلم The Green Mile: مداواة الشر بالشر

أصغر فرهادي في "الكل يعلم".. الحقيقة تقرع الأجراس