29-نوفمبر-2019

من الفيلم (IMDB)

طال انتظار فيلم المخرج الأمريكي مارتن سكورسيزي الذي بدأ عرضه على شبكة الأفلام والمسلسلات نتفليكس يوم 27 تشرين الثاني/نوفمبر، هذا الموعد الذي حفظه الجميع وتحضروا له.

عوالم سكورسيزي السينمائية حية في فيلمThe Irishman ، مع بعض من لحظات هيتشكوك

كل شيء جديد في الفيلم ولا شيء جديد في الوقت عينه، عوالم سكورسيزي السينمائية ما زالت حية في فيلمThe Irishman ، أضاف عليها كاتب السيناريو ستيفن زيليان، صاحب سيناريو فيلم لائحة شاندلر الشهير، بعضًا من لحظات هيتشكوك التي لا مثيل لها.

اقرأ/ي أيضًا: فيلم "El Camino".. هل سيصبح جيسي بنكمان من أيقونات السينما؟

حكاية الفيلم مقتبسة من قصة حقيقية تقفى أثرها الكاتب تشارلز براندت كاتب الروايات البوليسية وروايات الجريمة التي تحقق مبيعات عالية بحسب صحيفة نيويورك تايمز، يحمل الكتاب اسم "سمعت بأنك تطلي المنازل" I Heard You Paint Houses. هذه الجملة المفتاحية بين أبطال الفيلم هي عنوان فرعي أيضًا لأحداث قصته.

بعد حوالي 24 عامًا مرت على آخر تعاون بين سكورسيزي وروبرت دي نيرو في فيلم "كازينو" Casinoعام 1995، وابتعاد استمر 13 عامًا عن أفلام العصابات منذ فيلم المرحّلون The Departed عام 2006، يعود سكورسيزي مع ثلاثة من نجوم السينما الأمريكية بغية نفض الغبار مجددًا عن عالم العصابات.

ما يميز فيلم الرجل الأيرلندي حكاية البطولة والصداقة التي تنشأ بين الشخصيات من خلال مؤامرات وخطط مدبرة يديرها شخص وينفذها الآخر. يشكل كتاب براندت الأساس الحكائي لفيلم سكورسيزي، من خلال عدة خطوط حكائية يعتمدها الفيلم، مثل حل لغز اختفاء وقتل جيمي هوفا، وسرد سيرة حياة رجل المافيا فرانك شيران الأيرلندي والمشتبه به الرئيسي في قضية جيمي هوفا. يعتمد الكتاب أيضًا على ما يقرب من خمس سنوات من المقابلات المسجلة من قبل مكتب التحقيقات الفيدرالي في ذلك الحين، وقد تعامل الفيلم مع تلك الشهادات بطرق مختلفة، من الشهادة الفردية المحكية بضمير المتكلم، والتي تقال للمشاهد مباشرةً في خطة استرجاع خط الزمن للوراء، ومرات أخرى بصيغة حبكات صغيرة من ضمن الحكاية الأساسية التي يستعيدها الرجل الأيرلندي ويكشف من خلال تلك الاستعادة عن التحول الذي أصاب حياته بعد تعرفه على راسل بوفالينو، والذي يعرّفه بدوره على بطل من نوع خاص، جيمي هوفا الزعيم العمالي الأميركي الشهير، الرجل الذي حظي بشهرة ألفيس بريسلي في الخمسينيات، وبشهرة البيتلز في الستينيات، ونازع رؤساء أمريكا في هذا العصر على لقب الرجل الأقوى والأكثر تأثيرًا في الولايات المتحدة. هذا ما يطلعنا عليه الفيلم من معلومات حول الرجل إلاّ أن ثقل قضيته في سيرة حياة الأيرلندي هي في مكانٍ عميق من وجدانه. هذا الرجل الذي اختفى في منتصف السبعينيات وبقي لغز اختفاءه يشغل الجميع فترةً من الزمن.

يتبع الفيلم ثلاث شخصيات رئيسية: فرانك شيران (روبرت دي نيرو)، وجيمي هوفا (آل باتشينو)، وراسل بوفالينو (جو بيسكي).

ما يميز فيلم الرجل الأيرلندي حكاية البطولة والصداقة التي تنشأ بين الشخصيات من خلال مؤامرات وخطط مدبرة يديرها شخص وينفذها الآخر

فرانك شيران هو أحد المحاربين القدامى في الحرب العالمية الثانية والذي حوله تدريبه العسكري وخبرته القتالية نحو مهنة مربحة في الجريمة المنظمة، بتوجيه من راسل بوفالينو. مهنة فرانك، بطبيعة الحال، هي في المقام الأول تمر عبر كونه قاتلًا محترفًا، ويربطه راسل في نهاية المطاف بزعيم نقابة سائقي الشاحنات في فيلادلفيا، صاحب السمعة السيئة جيمي هوفا. يثق الأخير بالأيرلندي ثقة عمياء وتجمعهما صداقة فريدة، إلاّ أن فرانك شيران متبوع لبوفالينو ومخلص لأوامره. فإذا ما وضعنا الأوامر إلى جانب المشاعر فلا مكان للأخيرة بالطبع.

اقرأ/ي أيضًا: أطلس السينما: نيويورك سكورسيزي (1)

يعتمد الفيلم على سرد غير منظم ولكنه متوغل في الزمن الماضي. إذ نبدأ بمشهد فلاش باك، يقدم لنا شيران وراسل على أبواب الشيخوخة، على طريق سفر، يستدعي إلى الأذهان البدايات الأولى لهذه العصابة، يروي لنا من خلالها أجزاءً من السيرة، تأتينا على شكل شهادة فردية أو كأنها مذكراته عن فترة ما. هذا الاسترجاع يتبعه استرجاع آخر أكثر قدمًا نشاهد فيه التفاصيل الأولى لحياة شيران الشاب، وعلاقته براسل وتفاصيل العمل معه.

الحكاية أولًا

تضعنا حكاية فيلم الرجل الأيرلندي مرة أخرى أمام سكورسيزي الحكائي الذي يعرف كيف يوجه حكايته ويقودها. ولكن ما ينبغي تذكره على الدوام هو أن سكورسيزي قد كبر في السن وهذا بادٍ بشكلٍ كبير في هذا العمل، بالتأكيد أنه لم يفقد حيويته، لكن مواضيعه صارت أقرب إلى التأمل والتفكير بالمصير الشخصي وتأثير العام على الخاص والعكس صحيح.

ولكنه ليس وحده في الشيخوخة بل أيضًا أبطاله المفضلون: دينيرو (76 عامًا)، وآل باتشينو (79 عامًا)، وجو بيشي (76 عامًا)، هذا الطاقم التمثيلي الذي تجاوز السبعين يظهر لنا وكأنه قد عاد من زمنٍ آخر، أو عاد من بعد محاولة نسيان أو اضطراب في الذاكرة بكل ما للكلمة من معنى.

يذكرنا فيلم الأيرلندي بأن دينيرو وآل باتشينو قد قاما ببعض الأدوار التمثيلية التي كانت دون المستوى، هذا ما نلحظه على الفور في أدائهما، كذلك يعيد إلينا جو بيشي من الاعتزال، هذا الممثل الذي يقوم بأدوار مساعدة لا يمكن لغيره أن يقوم بها، وكأنها قد كتبت لأجله. تبدو علامات كبر السن واضحة في حركات الممثلين الثلاثة، لا يمكن إغفال هذا الأمر، على الرغم من تقنية تصغير السن (de- aging) التي جعلت الوجوه تبدو أصغر بقليل. إلاّ أنها لم تكن إلا حلًا تقنيًا يغني عن اختيار ممثلين شباب.

ينشغل سكورسيزي مجدّدًا بطبيعة النفس البشرية التي تتغير وتتبدل على الدوام، هو الذي لم يكن مشغولًا بحياة الأقوياء بل بالتفاصيل ذات التأثير القوي التي تبدل حياة البسطاء وتقلبها رأسًا على عقب، أبطاله من الحالمين وأصحاب الطموح الذي لا يوافقون على أن يمروا مرور الكرام في الحياة، بل نلاحظ أثارهم مطبوعة في أماكن مختلفة، سواء من كان منهم مثقلًا بأزماته ومن يحاول النجاة من نفسه وغيرهم ممن يتلبسون بالمعاناة ويحاولون الفرار منها.

واحد من كثير من الأسئلة التي يلقيها فيلم الرجل الأيرلندي علينا هو: هل يمكن الانتصار على الزمن، وما هي حاجتنا للصمت؟

واحد من الأسئلة التي يمكن الخروج بها من فيلم الرجل الأيرلندي هو هل يمكن الانتصار على الزمن، وما هي حاجتنا للصمت؟

اقرأ/ي أيضًا: أفضل 11 فيلمًا لمارتن سكورسيزي على الإطلاق

يمكن اعتبار فيلم الأيرلندي فيلمًا عن الكتمان أيضًا وخطورة البوح حتى بعد مرور الوقت، وهذا ما يبرر وجود الشهادة الفردية التي تؤسس لأحداث الفيلم، كأن سكورسيزي يضع بين يدي مشاهديه كل ما لا تقوى الشخصية على قوله في الحكاية. هناك الكثير من الأشياء التي يعرفها فرانك شيران عن أحداث غيرت مجرى تاريخ أمريكا، وتحديدًا حول انتخاب واغتيال جون كينيدي، وعن اختفاء جيمي هوفا عام 1975، وأشياء أخرى حول العنف الذي يحل كل المشكلات المستحيلة.

قصة عن التحول السريع

التحول سمة أساسية من سمات شخصيات الفيلم، على العكس مما يمكن أن نقابله في أفلام العصابات، حيث تظهر علاقات القوى المتصارعة والتحالفات في البداية، أمّا مع الأيرلندي فالتحولات والانقلابات سريعة جدًا، وسرعان ما تصبح متوقعة، مع العلم بأنه لا يمكن ضمان الآخرين، كذلك لا يمكن الوثوق بأيّ أحد، فنحن أمام صراع من نوع آخر، لا يمكن التنبؤ بما سيحمله. تلك الشخصيات المفاجأة تحمل في طباعها وسلوكها سمات عصرها، حيث يمكن أن نرى اندفاع وطاقة سنوات الستينيات في حركة الممثلين على الرغم من كبر سنهم، كذلك تطلعاتهم ومكاسبهم. وكأن سكورسيزي يأخذنا في رحلة عودة إلى الوراء قليلًا ليرينا بأن العالم لم يكن أفضل ربما، بل كان يغرق بالدماء أيضًا والتي سرعان ما تتحول لطلاء جدران المنازل التي تشهد على القتل. يطل سكورسيزي في تلك العودة أيضًا على الحياة السياسية الأمريكية بين الستينيات وأواخر السبعينيات، والتجاذب والتنافر الذي حمله عصر الرئيس الأمريكي جون كينيدي وخليفته ريتشارد نيسكون وعلاقتهما بالمافيا، كيف لا ونحن نتحدث عن عصابة مافيا إيطالية أمريكية تقف وراء كل تغيير أو حسم في البلاد.

بين المعروف والمسكوت عنه

يسأل جيمي هوفا فرانك شيران خلال مكالمة هاتفية بينهما "سمعت أنك تطلي المنازل؟" هذه الجملة التي تؤسس لشكل علاقة صداقة مبنية على أساس الثقة بين الاثنين، وعمادها التعاون الكلي والإخلاص، إلاّ أننا ريثما نصبح في آخر ساعة مع عمر الشريط أمام واحدة من أصعب المهام التي أعطيت للأيرلندي، وهي قتل جيمي هوفا، فقد حان دوره. شيران الذي يعدد ضحاياه كما يعدد حبات فستق يريد التهامها، يغرق في بؤسه وتغرق معه أجواء الفيلم في مشاهد الصمت الطويلة، والحركة الدقيقة. لم تكن الرصاصات التي اخترقت رأس هوفا كغيرها بل كلفت الأيرلندي الكثير وغيرت حياته، ولكنها مع غيرها من الأحداث رسمت مجد هذا الرجل.

هذا الأيرلندي يطلي البيوت بماذا؟ بالدماء المسفوكة ربما إثر بضعة رصاصات تخترق رأس الضحية، المقصود ربما دماء جيمي هوفا الذي عرف أن الموت بانتظاره، وربما عرف بأن أقرب شخص إليه هو من سيوجه الرصاصات إلى رأسه، يحيلنا هذا قليلًا إلى مفهوم الخطيئة والغفران في استعادة دينية واضحة أصر سكورسيزي على أن تأخذ فرصتها في الساعة الأخيرة من الفيلم، وهذا ما يبرّر الترويّ والتمهّل الذي أصاب إيقاع الفيلم فجأة منذ اللحظة التي تقرر فيها وجوب موت جيمي هوفا على يد صديقه. 

وكأن سكورسيزي يترك لأبطاله السبعينين الفرصة الأخيرة للتفكير بحياتهم ومصائرهم ولكن على الشاشة، كذلك يترك لنا فرصةً للتأمل بمرور الوقت والفراغات التي يردمها الصمت في تجارب البشر القاسية، فتعلو قيمة الصمت فوق قيمة كل ما يمكن قوله.

هل امتلكت نتفليكس عصًا سحرية تجعلنا نشاهد فيلم سكورسيزي في لحظة صدوره وبدقة عالية، جالسين على أريكتنا المريحة في البيت؟

بعد كل السحر والتأمل الذي يتركنا فيلم الأيرلندي غارقين فيه، ننتبه في الختام إلى إشارة شبكة نتفليكس، ويدعونا هذا للتساؤل: هل امتلكت نتفليكس عصًا سحرية تجعلنا نشاهد فيلم سكورسيزي في لحظة صدوره وبدقة عالية، جالسين على أريكتنا المريحة في البيت؟ أهذه لعنة أم معجزة؟

اقرأ/ي أيضًا: نصيحة سكورسيزي للسينمائيين الشباب.. 9 أفلام أجنبية خالدة عليك مشاهدتها

ربما المعجزة كانت خروج هذا الفيلم الذي أنقذته نتفليكس التي لديها ما يخولها اليوم لإنتاج كل ما لا تُقبل هوليود عليه، هل صارت السينما بقبضة هذا المنتج؟ ربما حكاية إنتاج فيلم سكورسيزي الأخير تنبأ بذلك، بعد أن تعلق العمل في هذا الفيلم عدة سنوات بسبب الإنتاج حققت نتفليكس حلم سكورسيزي بمنحه ميزانية بلغت 160 مليون دولار أمريكي، والكثير من الحرية الفكرية لإتمام عمله الروائي هذا.

اقرأ/ي أيضًا:

6 من أفضل أفلام روبرت دي نيرو على الإطلاق!