05-أبريل-2021

من الفيلم (IMDB)

أن تعش، أن تشاهد بانتباه، أن تُنصت. ثلاث نصائح يقدِّمها مدرِّبٌ في ورشة كتابة لأحد المتدرِّبين، في معرض حديثه عن ضرورة أن يكون المرء واقعيًا إن أراد أن يكون كاتبًا. ولكن المتدرِّب لا يفهم تمامًا ما يقصده المدرِّب، والأخير بدوره يبدو غير مدركٍ لجوهر نصائحه، ولكنه يحاول عبرها أن يفسِّر لتلميذه سبب فشله في كتابة جملةٍ أدبيةٍ واحدة، رغم السنوات الثلاث التي قضاها في الورشة، مما يعني أنها نصائح يُراد منها التبرير فقط، أو الإشارة إلى أصل المشكلة وجذورها، دون بذلِ أي عناءٍ في شرحها.

يلمس المشاهد في هامش الفيلم أصول بناء العمل الروائي التي يشير إليها ضمنًا في سياق سخريته من ورش الكتابة الأدبية

يبني المخرج الإسباني مانويل مارتن كوينكا فيلمه "إلهام" (نتفلكس، 2017)، انطلاقًا مما يترتب على هذه النصائح الثلاث، ولكن بشكلٍ يمكّنه من السخرية منها، والاستهزاء بورش الكتابة والعاملين فيها والأشخاص الذين يقصدونها ظنًا منهم بأنها تصنع كتّابًا.  

اقرأ/ي أيضًا: فيلم "حياة من ورق".. التشرد كمحوٍ وإزالة

وفي هامش هذه السخرية، لا بد أن ينتبه المُشاهد، إن أمعن ودقّق، إلى النقاشات الخافتة والجانبية التي تُمرر بخفة حول الكتابة والأدب، الحقيقي منه والرديء. ولا بد أن يلمس أيضًا، في الهامش نفسه، أصول بناء العمل الروائي التي يشير إليها الفيلم ضمنًا في سياق سخريته من تلك الورش، وهي أصولٌ تُشكِّل، بالتوازي مع الإشارة إلى أخطاء وثغرات الأدب الرديء، خارطة طريقٍ توضّح الكيفية التي يجب أن يُبنى العمل الروائي انطلاقًا منها.

النقاشات الخافتة والجانبية حول الأدب، يمكن لمسها في الحوارات التي تدور بين ألفارو، بطل الفيلم الذي يرغب في أن يكون كاتبًا، ومدرِّبه الذي لا يدرِك جوهر مجمل الكلام الذي يتفوّه به، ذلك أنه لا يتعدى كونه مجرد جُملٍ اعتاد قولها بحكم الوقت الذي قضاه مدرِّبًا في ورش الكتابة، الأمر الذي يجعل من حواراتهما التي تدّعي المعرفة والإلمام بأسرار وتقنيات الكتابة الأدبية، مجرد حذلقاتٍ وكلامٍ فارغ لا يصنع عملًا أدبيًا في نهاية المطاف.

أما الكيفية التي يجب أن يُبنى العمل الروائي انطلاقًا منها، فتكمن في مسعى ألفارو لكتابة رواية، أو في الثغرات التي لا ينتبه لها أثناء الكتابة، والتي من الممكن الاستدلال عبرها إلى أصول البناء الروائي، لا سيما الثغرة التي تعيد روايته إلى المكان الذي انطلقت منه، بل وتقوض بنيانها وتحتّم عليه إعادة بنائها مرة أخرى، دون أن يجد الوقت الكافي لفعل ذلك، الأمر الذي يجعل من نصائح المدرِّب مجرد إشارة إلى الطريق، دون أي تفاصيل حول طريقة قطعه، تلك التي فات ألفارو التفكير بها، أو الانتباه إليها.

يتخذ ألفارو من المبنى الذي يسكن فيه مسرحًا لأحداث روايته، ويختار من سكانه شخوصًا لها، ويجعل من حكاياتهم حكايتها الرئيسية

تغيّر نصائح المدرِّب حياة ألفارو، وتعيد رسم مصيره أيضًا. يُقرر في البداية، تحت تأثيرها، الحصول على إجازةٍ من عمله والتفرغ للكتابة، ولكنه سرعان ما يغيّر مكان سكنه وينتقل للعيش في مبنىً سكني، بهدف التفرغ للعمل بتلك النصائح هذه المرة، إذ إن العيش في مكانٍ مزدحمٍ بالبشر، والاحتكاك بهم يوميًا، يتيح له أن يعيش ويشاهد وينصت من جهة، ويوفر له المواد الخام التي يحتاجها لبناء روايته المنشودة من جهةٍ أخرى.

اقرأ/ي أيضًا: فيلم "Druk".. كاميرا سكرانة تصور ما لا يمكن السيطرة عليه

ولكن، قبل قراره الاتكاء على تفاصيل حياة سكان المبنى وسلوكهم، يجوب ألفارو، بشيءٍ من البلاهة، الشوارع بحثًا عن تفاصيل، مشاهد، حوارات، تساعده في بناء روايته. ولكن من يضمن له أن تسير الأحداث بالطريقة التي يشتهيها في مكانٍ متبدّلٍ لا يعرف الثبات؟ مكانٌ لا يستمر فيه اليوم ما انتهى عنده أمس؟ ولا يمكنه أن يصادف فيه الشخص ذاته أكثر من مرة؟ هذه الأسئلة، بالنسبة إلى شخصٍ يفتقر للمخيلة، كفيلة بدفعه للتخلي عن فكرة الاتكاء على العالم الخارجي للحصول على ما يحتاجه لكتابة روايته.

يجد ألفارو البديل في المبنى، حيث يعيش، فيتخذ منه مسرحًا لأحداث روايته، ويختار من سكانه شخوصًا لها، ويجعل من حكاياتهم حكايتها الرئيسية، ليبدأ حينها، وبسبب عجزه عن بناء مشهدٍ واحدٍ في مخيلته، وحاجته أيضًا إلى أحداثٍ يومية مستمرة ومتصلة ببعضها البعض، بالتقرّب من سكان المبنى بما يكفي لينال مبتغاه.

يلجأ ألفارو إلى زوجة البوّاب ليحصل منها على ما يحتاجه من معلوماتٍ حول سكان المبنى. ويكتشف، في الوقت نفسه، أن نافذة حمّام شقته مجاورة لنافذة مطبخ جيرانه، وهم عائلة مكسيكية مهاجرة، تتيح له نافذة الحمّام معرفة قدرٍ لا بأس به من تفاصيل حياتها اليومية التي تصله من خلال الحوار اليومي بين الزوجين. وعبر هذا الحوار، يعرف أن العامل المكسيكي مهددٌ بالطرد من عمله، وأنه يبحث عن محامٍ يدقق عقده ليعرف ما إذا كان يحق له المطالبة بتعويض.

النقاشات الخافتة حول الأدب يمكن لمسها في الحوارات التي تدور بين بطل الفيلم الذي يرغب في أن يكون كاتبًا ومدرِّبه

رأى ألفارو في مأزق العامل المكسيكي فرصة سانحة لدخول حياة عائلته، وبالتالي الحصول على أكبر قدرٍ من المعلومات والتفاصيل حولها، فرتّب مع زوجة البوّاب مشهدًا تمثيليًا للإيقاع به، تلعب هي فيه دور البطولة، عبر شكرها لألفارو أمام العامل، على مساعدته أحد أقاربها في الحصول على تعويضٍ بعد طرده من عمله، وهو ما انطلى على العامل الذي طلب مساعدة ألفارو.  

اقرأ/ي أيضًا: فيلم "إبراهيم إلى أجل غير مسمى".. العائد إلى دير أبو مشعل

واحدة من مفارقات الفيلم هي سعي ألفارو – الذي فشل على مدار ثلاث سنوات في بناء مشهدٍ روائي أو كتابة جملةٍ أدبيةٍ واحدة – للتحكم بمسار حياة العائلة المكسيكية كما يشتهي، بحيث يضمن خط إمدادٍ لروايته، ويمنحها بُعدًا إنسانيًا من خلال خداع العامل عبر إخباره بأن عقده لا يسمح له بالمطالبة بأي تعويض، في الوقت الذي كانت فيه العائلة تعاني ظروفًا مادية مأساوية.

في هذا الوقت، نجح ألفارو في إقامة علاقة صداقة مع عجوزٍ يعيش وحيدًا في شقته، واستطاع التقرّب منه بما يكفي ليُطلعه على مكان الخزنة ورقمها السري الذي سيبوح به عمدًا أمام العامل المكسيكي وزوجته، خلال تناولهما العشاء معًا بدعوةٍ من ألفارو الذي كان مقتنعًا بأن العامل لن يتردد في قتل العجوز وسرقة أمواله في ظل الأوضاع المأساوية التي تعيشها عائلته، الأمر الذي سيمنح روايته بُعدًا مختلفًا تمامًا.

يتصرف ألفارو، كما أوهم نفسه، بذكاءٍ وثقة، تمامًا كروائيٍ مُمسكٍ بحكايته وحبكتها ومصائر شخصياتها، مع فارقٍ وحيد يكمن في أن الأخير يبني حكايته وشخصياتها في مخيلته، بينما يكتب هو ما يحدث في محيطه، ما يراه ويبصره أمامه مباشرةً، مضيفًا بين وقتٍ وآخر تفاصيل قد تغيّر مسار الأحداث من حوله بشكلٍ تكون عنده قابلة لأن تُكتب، وتُقرأ، وتقنع القارئ أيضًا.  

ولكن هذا مؤقت، لأن ألفارو، رغم نجاحه في حرف مسار عائلة العامل المكسيكي ودفعِهِ لقتل العجوز وسرقة ماله، فاته أن هذه الشخصيات جميعها مستقلة عنه، ولا سلطة له عليها، لأنها ليست من صنعه، ولا يمكنه بأي شكلٍ كان الاطّلاع على نواياها أو التكهن بها، على العكس تمامًا من الروائي الذي يبني شخصياته بنفسه، ويكون مطّلعًا على باطنها قبل ظاهرها، لأنها صنيعة مخيلته في نهاية المطاف.

يسخر فيلم مانويل مارتن كوينكا "إلهام" من ورش الكتابة والعاملين فيها والأشخاص الذين يقصدونها ظنًا منهم بأنها تصنع كتّابًا

هذا بالضبط ما فات ألفارو الذي بدا واثقًا من نجاحه، أخيرًا، في كتابة روايةٍ واقعيةٍ ومتماسكة، ومردّ ثقته هذه هو أن حكايته التي يرويها في روايته، حدثت أمامه مباشرةً، بل إنه كان جزءًا منها، ومطّلعًا على أدق تفاصيلها، وإذ بالحكاية ذاتها تنهار فجأة في اللحظة التي كان من المفترض أن تنتهي فيها، وينهار معها بنيان الرواية بشكلٍ كامل، ذلك أن العامل المكسيكي قتل العجوز بـ"مفك براغي" وجدت الشرطة عليه بصمات ألفارو الذي تذكّر، لحظة اقتياده إلى السجن، أنه أعار "المفك" للعامل قبل يومٍ من مقتل العجوز.

اقرأ/ي أيضًا: فيلم الهدية.. حجرٌ لكسر هذا الصمت

تفصيلٌ صغيرٌ لم يقوّض بنيان رواية ألفارو فقط، إنما غيّر مسار حياته أيضًا بشكلٍ مضحكٍ ومؤلمٍ في الوقت نفسه، لا سيما أن السبب وراء رغبته هذه في كتابة رواية لا الولع بالأدب، وإنما الغيرة، غيرته من زوجته التي استطاعت تأليف كتابٍ حقق أرقام مبيعاتٍ عالية. وهذا أيضًا سبب انفصاله عنها، وليس خيانتها له مع رجلٍ آخر.  

اقرأ/ي أيضًا:

الأب ميشيل صباح في فيلم "بطريرك الشعب".. أمل وبقاء ومقاومة

فيلم "الليل الطويل".. أزمنة السجن وأزمنة الحرية