22-مارس-2025
لقطة من فيلم أيام مثالية

لقطة من فيلم أيام مثالية

في شقة صغيرة في أحد أحياء طوكيو، بعيدًا عن الناس مع أنه بينهم، على هامش الحياة رغم أنه منهمكٌ فيها إلى أبعد حد، يعيش هيرامايا بطل فيلم "أيام مثالية" (Perfect Days) للمخرج الألماني فيم فيندرز. مع بداية الفيلم، تبدو حياة هيرامايا كئيبة ومملة. لكن مع نهايته، نكتشف أن الرجل يمتلك موهبة كبيرة في العيش كما يريد، لا كما يريد الآخرون.

قد ينطوي عنوان الفيلم (2023) على مفارقة لافتة إذا ما عقدنا، بقصد أو من دون قصد، مقارنة بين حياتنا وحياة هيرامايا التي يُحيل كل ما فيها إلى شيء واحد فقط: الانضباط والقلة بوصفهما أسلوب حياة.

المفارقة قادمة من سؤال: ما "المثالي" حقًا في حياة رجل يعيش بمفرده في شقة صغيرة لا تتسع لسواه؟ يستيقظ باكرًا على أصوات قادمة من الشارع أسفل بيته، يُعيد قراءة الكتاب الذي كان يقرأه قبل أن ينام، يطوي فراشه، يقص شاربه، يسقي نباتاته الصغيرة، يرتدي بذلته، ثم يخرج من البيت، يلتقط علبة قهوة من آلة البيع جواره، ويقود سيارته الصغيرة إلى عمله: تنظيف مراحيض طوكيو العامة.

"أيام مثالية" فيلم عن السحر المفقود في عالمنا، أو الذي أصبحنا عاجزين عن رؤيته لأن حياتنا عبارة عن ركض متواصل خلف أشياء كثيرة ربما لا نسأل عن جدوى الكثير منها

يؤدي هيرامايا وظيفته بدقة ملفتة للانتباه، وبشغف قد يبدو غريبًا، وصادمًا، إذا ما أخذنا طبيعة عمله بعين الاعتبار. يتنقّل بين مرحاض وآخر بعد أن يتأكد من نظافتها تمامًا. لا يتذمر، ولا تظهر عليه ملامح التعب. يتوقف عن العمل ظهرًا ليتناول وجبة الغداء في الحديقة، حيث يخرج كاميرته الصغيرة والقديمة لالتقاط صور لأوراق الأشجار. هذه الصور ليست عابرة في حياته، وليست عادية أيضًا. إنها جزء من أيام مضت كما يريد، ولذلك يحتفظ بها في صندوق يحتوي على صور أخرى كثيرة لأوراق الأشجار، أو ربما هي اللقطة نفسها لكن من زوايا مختلفة. 

يذهب أحيانًا إلى حمام عام، وغالبًا في عطلة نهاية الأسبوع. يتناول العشاء في مطعم بسيط، ثم يذهب إلى المكتبة ليشتري كتابًا، قبل أن ينطلق في جولة على دراجته النارية تنتهي أمام باب منزله، حيث يقرأ، ينام، ويحلم، ثم يعيد تكرار اليوم نفسه في اليوم التالي. الأحرى أنه يعيش يومه كأنه يوم جديد، لكن نحن فقط من يشعر بأنه يعيد تكرار يومه السابق، وهذا غير صحيح.

هيرامايا مولعٌ بالتقاط التفاصيل الصغيرة التي لا ينتبه إليها أحد. تلك التفاصيل العادية، البسيطة، والعابرة التي لا تبدو مهمة في دوامة الحياة اليومية، وانشغالات إنسان اليوم الذي يجد نفسه، بقصد أو من دونه، يركض خلف ما يفوق قدرته على الركض.

تترك حياة هيرامايا البسيطة، بأحداثها القليلة، وبصمته الطويل لدرجة أنه قد يمضي أيامًا كاملة دون أن ينطق سوى ببضعة كلمات، سؤالًا قد يكون أبرز تساؤلات الفيلم وأهمها بل وأشدها إلحاحًا: من أين جاء بهذه القدرة على عدم السقوط في قلب الملل واليأس؟ ومن يأتي بهذه القوة على الاستمرار في نمط حياة رتيب، كئيب، ممل، كهذا؟

الإجابة ربما، وهذه ليست إجابة قاطعة وإنما مجرد افتراض، من رؤيته لطبيعة حياة الناس حوله، أولئك الذين تطحنهم الحياة دون رحمة، وتدفعهم للركض خلف أشياء كثيرة من دن لحظة راحة واحدة، حتى تبدو حياتهم كأنها ماراثون مفتوح دون خط نهاية.

يعيش هيرامايا حياة منضبطة إلى أبعد حد، بل إلى درجة تبدو معها مملة. لكنه اختار هذا النمط من الحياة بوعي. وبدلًا من التفكير في الهرب من روتينه هذا، يتمسك به كأنه الطريقة الوحيدة للنجاة من ضجيج العالم، أو حتى من فوضى ما كامنة في داخله، إذ إننا لا نعرف عنه سوى القليل، لكننا نشعر بأن نمط حياته هذا ليس تلقائيًا، بل نتاج حادثة ما، أو ربما حوادث، دفعته إلى تبني هذا النمط من الحياة.

الهدوء الذي تتسم به حياته نتاج جهد طويل ومشقّة، إذ لا يمكن لأي إنسان أن يعيش حياته هادئًا بهذا الشكل؛ أن يقضي أيامه في عمل يحب، ثم في التأمل والتقاط ما لا يُلتقط في زحمة الحياة اليومية. إنه، ببساطة، لا يتفاعل مع العالم بل يستقبله، وكل لحظة في حياته تبدو كأنها فرصة لرؤية شيء جديد. وبوسعنا القول إن حياته "حياة كاملة"، إذ ما الذي قد تعنيه هذه الحياة أكثر من أن يعيش المرء كما يريد، لا كما يريد له الآخرون؟ 

"أيام مثالية" فيلم عن السحر المفقود في عالمنا، أو الذي أصبحنا عاجزين عن رؤيته لأن حياتنا عبارة عن ركض متواصل خلف أشياء كثيرة ربما لا نسأل عن جدوى الكثير منها. إنه مقولة مفادها: هكذا يمكن أن تكون الحياة حقًا، لكننا لم نعد قادرين على عيشها!