25-مارس-2017

لقطة من الفيلم

"وإذا ما صرخنا، إذا
ما أفصحنا عن أصواتنا الأخرى
فحتى الملائكة
ستخفي رؤوسها تحت أجنحتها الثقيلة
لئلا تسمع الصرخة"

(سركون بولص)

نادرة تلك الأفلام التي تجدها مختلفة كل الاختلاف عن بقية الأفلام في نفس فئتها، واحد منها هو ذلك الفيلم الجميل "أغنية على الممر"، معظم الأفلام الحربية المصرية متشابهة إلى حد كبير تكاد تكون نفس القصة، ولكن عندما شاهدت ذلك الفيلم فوجئت بشدة واعتبرته واحدًا من أفضل خمسة أفلام مصرية، فالفيلم لم يكتفِ بالكلام والحديث عن شجاعة وعظمة الجنود المصريين في تلك الفترة، ولكنه احتوى على أبعاد إنسانية واجتماعية وعدة عناصر أخرى سأتحدث عنها بالتفصيل.

فيلم "أغنية على الممر" عما أصاب المجتمع المصري من انحدار وتدنٍّ على جميع المستويات والتي أدت بنا إلى الهزيمة

الفيلم باختصار عن خمسة جنود مصريين حوصِروا في ممر بعد "نكسة 1967" وفقدوا كل وسائل الاتصال بقيادتهم، ومهتمهم هي الدفاع عن ذلك الممر من هجوم العدو الصهيوني، لكل جندي من هؤلاء الجنود قصة نراها واحدة تلو الأخرى، يسير الفيلم في اتجاهين، الأول هو واقع هؤلاء الجنود وما أصابهم من خوف وتعب وما يقابله من صمود ورغبة في الانتصار، أما الاتجاه الآخر فهو "فلاش باك" لقصة كل جندي منهم.

الفيلم بالدرجة الأولى، عما أصاب المجتمع من انحدار وتدنٍّ على جميع المستويات والتي أدت بنا إلى الهزيمة، القصة الأولى قصة حمدي الملحن الذي يصنع ألحانًا ذات قيمة فنية عالية، ولكنه يصدم عندما يجد أن الفن أصابه الابتذال والعطب، وأن هذا الابتذال هو ما يسعى وراءه الناس في هذه الأيام، فأولى علامات فساد المجتمع هو فساد الفن الذي يقدمه.

اقرأ/ي أيضًا: فيلم "تانا".. قبائل تقتحم الأوسكار بقصة عاشقين

القصة الثانية هي قصة الشاويش محمد، الفلاح البسيط الذي انتزعته الحرب من أحضان أولاده وأرضه التي يزرعها ليلقى في وسط النار، فالحرب لا تدمر منشآت وتقتل جنود فقط ولكنها تدمر المجتمع اقتصاديًا واجتماعيًا على مستويات عديدة.

القصة الثالثة قصة شوقي، المثالي الذي يؤمن بالمثالية والفن الهادف فيجد نفسه غريبًا في المجتمع مع اتهامه من الجميع بالفشل، فقد فشل شوقي في التعامل مع هذا الواقع المليء بالتلون والنفاق فتم نعته بالفاشل، فالشعور بالغربة ملازم لأولئك الذين يحافظون على قيمهم ومبادئهم في المجتمعات التي أصابها القبح والانهيار.

القصة الرابعة قصة منير الشخص الجشع الجبان، وهو الوحيد في الخمس قصص الذي وجد طريقة يتعامل بها مع الناس في تلك الفترة وشق طريقه للنجاح بالتلون والنفاق والفساد، في إشارة إلى أن هؤلاء هم من سيطروا على الواقع في تلك الأيام، وأن هؤلاء هم من يمجدهم المجتمع ويفتح لهم باب النجاح السريع.

اقرأ/ي أيضًا: فيلم "عرق الشتاء".. هنا المغرب

القصة الأخيرة قصة مسعد، الشاب البسيط الذي لا يحلم سوى أن يتزوج ويعيش حياة خالية من التعقيدات، ولكن زج به في غمار الحرب دون أي ذنب.

الهزيمة التي يتحدث عنها الفيلم ليست هزيمة حربية فقط، ولكنها هزيمة مجتمع بأكمله وانهيار مبادئه وقيمه، هزيمة العدل والمثالية والفن في مقابل الظلم والنفاق والقبح.

الفيلم على مستوى السيناريو قوي للغاية ومتماسك وذكي جدًا في تسلسل أحداثه، أداء الفنان محمود مرسي لدور الشاويش محمد، شيء عظيم تستمتع بكل كلمة تخرج منه، ولكن المبهر حقًا بالنسبة لسنة صنع الفيلم وهي 1972 هي حركة الكاميرا، والكادرات التي اختارها المخرج علي عبد الخالق.

الهزيمة التي يتحدث عنها فيلم "أغنية على الممر" ليست هزيمة حربية فقط، ولكنها هزيمة مجتمع بأكمله وانهيار مبادئه وقيمه

حركة الكاميرا في هذا الفيلم عظيمة ومبهرة فكل حركة تهدف إلى شيء ما، إما أن تقوِّي مشاعر معينة، أو أن تصل بنا لاستنتاج معين، فنجد أن الكاميرا ترصد لنا مشاعر هؤلاء الجنود سواء كانت الخوف أو الأمل أو الرغبة في أن ينتهي كل ذلك، وهو شيء قلما تجده مصنوعًا بحرفية في أفلام مصرية. عيب الفيلم الوحيد هو ضعف الإمكانيات في ذلك الوقت مما جعل بعض المشاهد، خصوصًا المشاهد الحربية، تظهر دون المستوى.

مشهد نهاية الفيلم مختلف عن معظم الأفلام من هذا النوع، فبعد أن مات ثلاثة جنود ولم يتبقَّ سوى الشاويش محمد وشوقي، قرر شوقي البقاء للقتال بالرغم من أوامر الشاويش محمد له بالانسحاب والعودة للخط الثاني، وترك لنا الفيلم النهاية مفتوحة، بالرغم أن شوقي والشاويش محمد سيخوضان معركة خاسرة في مواجهة جيش منظم ومتكامل، إلا أننا شعرنا بحب هؤلاء الجنود للبلد وللأرض التي يدافعون عنها. فبالرغم من الهزيمة الشخصية لهؤلاء الجنود على يد المجتمع، فإنهم لم يكرهوا البلد ولو للحظة وظلوا يدافعون عن أرضها حتى النفس الأخير.

في النهاية لم يصل لحن حمدي لكي يسمعه الناس، فقد ظل الناس حتى الآن غارقين في النفاق والابتذال ومبتعدين شيئًا فشيئًا عن الفن والجمال والقيم الإنسانية. فمتى يصل لحن حمدي للناس لكي يستفيقوا من غيبوبتهم؟

اقرأ/ي أيضًا:
أمينة رزق "أم السينما العربية" قلبًا ولقبًا
فيلم "سيلفيا" وكيف يحول الزواج القصيدة إلى فطيرة